الأربعاء 28 سبتمبر 2016 / 19:56

رصيف القطار رقم ¾ 9

الكاتبة البريطانية لا تلتزم بقواعد البناء الدرامي، بل تنتقي منها ما يُناسب المشهد، فأحياناً تبدو الشخصيات، وكأنَّ القدرة الخارقة قد نُزِعَتْ منها فجأةً لحساب الحدث الدرامي، وأحياناً أخرى تُحَل التعقيدات الدرامية بضربة عصا سحرية من الكاتبة

منذ الدقائق الأولى في فيلم "هاري بوتر وحجر الفلاسفة"، الجزء الأول، هناك تفرقة حاسمة بين نخبة أو صفوة أو فرقة ناجية أو جيتو السَحَرَة، وبين البشرية قاطبةً. كل إنسان لا يمارس السحر، فهو إنسان عامي. التفرقة في الفيلم أخلاقية ومعرفية، ولصالح السَحَرَة. الساحر بالفطرة هاري بوتر مات والداه أثناء معركة بطولية مع ساحر شرير يمارس السحر الأسود. إذن ما أن يبعتد جيتو السَحَرَة بتعال عن عالَم البشر العامي إلا ويستعير منه ثنائية الخير والشر، فهاري بوتر بطل الفيلم يُصارع بسحره الأبيض، لو جاز التعبير، ملك الظلام، وملك السحر الأسود، لورد فولدمورت.

هاري بوتر كما في الحكايات الدينية هو البطل المُخْتَار، البطل الناجي، البطل المُنْتَظَر. بل كان ووهو صغير إلى جانب والديه في معركتهما مع لورد فولدمورت، وأصابه جرح على جبهته، وبشكل ما لم يستطع ملك الظلام القضاء عليه. وبقي شعب السَحَرَة في انتظار اليوم الذي يثأر فيه هاري بوتر من لورد فولدمورت. في العادة لا ينطق السَحَرَة اسم لورد فولدمورت كما يقول أليفندرز بائع العصي السحرية لهاري بوتر، ربما اعترافاً بقوته، وربما خوفاً كما في الثقافات القديمة، من أن نطق الاسم يعني حضور صاحبه، والحضور الآن ليس مطلوباً طالما المُحارِب هاري بوتر ما زال في فترة الإعداد. العصا هي مَنْ تختار ساحرها، وهي فريدة جديرة بهاري بوتر، فعليها شعْرة من طائر الفينيق الأسطوري أو العنقاء، ومن نفس الطائر هناك شعْرة أخرى على عصا لورد فولدمورت التي أصابتْ جبهة هاري بوتر.

تغرف الكاتبة البريطانية الشهيرة ج. ك. رولينج في سلسلة روايات هاري بوتر بغير حساب من الخرافات والأساطير والحكايات الشعبية بحيث يصْعُب على القارئ أو المُشاهِد وضع يديه على قواعد البناء الدرامي المٌفْتَرض أن تقدمها الكاتبة في البداية ثم تلتزم بها طوال الأحداث.

 المُفارَقَة التي لا تعمل في صالح الكاتبة البريطانية، أن شخصيات رواية هاري بوتر، والفيلم كذلك، مثل كبير أساتذة مدرسة هوجوورتس ألبوس دمبلدور والأستاذة ماجوناجل، وهي المدرسة التي يدرس فيها هاري بوتر فنون السحر، لا تكف عن ذكر القواعد وأهميتها. الكاتبة البريطانية لا تلتزم بقواعد البناء الدرامي، بل تنتقي منها ما يُناسب المشهد، فأحياناً تبدو الشخصيات، وكأنَّ القدرة الخارقة قد نُزِعَتْ منها فجأةً لحساب الحدث الدرامي، وأحياناً أخرى تُحَل التعقيدات الدرامية بضربة عصا سحرية من الكاتبة.

هناك مؤسسة وضعية عند عامة البشر لم تستطع فرقة السَحَرَة الناجية إخفاء ريالة اللعاب على ذقنها طمعاً ورغبةً في تلك المؤسسة، وهي مؤسسة البنك، الذي يعني كلمةً واحدة، وهي المال. ربما يكون المال ساحراً لعامة البشرية، لكن كيف يكون ساحراً للصفوة المُخْتَارة؟ كيف يكون ساحراً للسَحَرَة؟ الإجابة قد تعني أن الصفوة المُخْتَارة مغشوشة أخلاقياً ومعرفياً مثل عامة البشر، وأنها ليستْ نقية الدماء كما تدعي. يقول هاري بوتر لروبيوس هاجريد العملاق حافظ مفاتيح مدرسة وأراضي هوجوورتس: كيف سأدفع مستلزمات الدراسة، العصا أو البومة أو القطة أو الضفدع أو مقشة الطيران نمبوس 2000؟ أنا ليس لدي المال. يرد هاجريد وهو يشير إلى مبنى ضخم: ها هو مالك يا هاري. جرينجوت، بنك السَحَرَة. ولزوم السحر والشعوذة المبنى أعمدته وجدرانه مائلة قليلاً. تُثبت الكاتبة البريطانية ج. ك. رولينج أنها ابنة عصرها الرأسمالي، وأن أجنحة الخيال الجامح تُقص دون رحمة أمام جبروت المال. هنا يعرف الخيال حدوده. بتوفيق لامع من الكاتبة والمخرج، تكون إدارة البنك لأقزام بأنوف معقوفة وآذان مُسننة. يسأل هاري مَنْ هؤلاء؟ يُجيب هاجريد بدلالة أخرى: أقزام يا هاري. وكأنه يقول: صيارفة يهود يا هاري. عائلة روتشيلد، سماسرة الخيال والواقع يا هاري.

يترك هاجريد العملاق هاري بوتر في محطة قطار واقعية، ويعطيه تذكرة مكتوب فيها رقم رصيف القطار الذي سينطلق به لمدرسة هوجوورتس. رقم الرصيف ¾ 9، أي الرصيف رقم 9، وثلاثة أرباع الرصيف رقم 10. خفة دم الخيال، وربما طفولة الخيال. لتحقيق رقم الرصيف المستحيل، يدخل هاري بوتر في الحائط المُقام بين الرصيف 9 والرصيف 10.

يكتشف هاري بوتر مع صديقه رون، وصديقته هرميون، أن حجر الفلاسفة، إكسير الحياة، باعث الخلود، يحميه كلب بثلاثة رؤوس في قبو المدرسة، وتحت القبو رقعة شطرنج عملاقة، وهي مباراة أو معركة تُخاض بسيوف وسهام حقيقية، والانتقال من مربع لآخر يتم عبر تدمير قطعة الخصم. وبفبركة درامية تقفز الكاتبة البريطانية، لتضع حجر الفلاسفة في جيب هاري بوتر، ورغم مُحَاوَلَة تفسير وجود الحجر في جيب هاري بوتر قبل معركته مع لورد فولدمورت، بسبب المرآة السحرية، يبقى المُشاهِد بفعل الانتقاء المُفاجئ من الكاتبة، في منطقة رمادية بين الخارق والمعقول. يهزم هاري بوتر لورد فولدمورت نصف هزيمة، لجعل الباب مفتوحاً أمام الأجزاء القادمة.