الخميس 29 سبتمبر 2016 / 18:26

اجتثاث صرخة الشابي الأولى

كان الاستعمار الفرنسي يحترم دور العبادة الإسلامية، ويبني دور الثقافة، وينشر الحدائق العمومية ويوسع في المساحات الخضراء، وكان وفيًّا لاسمه: كان استعمارًا ، ولم يكن استدماراً


1 -
انتهى كل شيء،
رحل أبو القاسم الشابي في سن الخامسة والعشرين، وأنقذه الله من سخف بعض العمائم، وجهل الذين قال فيهم المتنبي: أغايةُ الدين أن تحفو شواربكم يا أمَّةً ضحكت من جهلها الأممُ؟ فأغلب هؤلاء رأى أنّ الاستعمار الفرنسي قضاء وقدر، ولا مردّ له إلا بالتسليم. ولهذا أحس الشيوخ المتزمتون بالاستفزاز من عبارة الشابي: إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بدّ ان يستجيب القدر.

2-
لم يعرف الشابي إلا القليل من بطش المستعمر الفرنسي بالناس في البلاد التونسية، بل إنه كان يعمّر الأرض التونسية، ويبني السدود والسكك الحديدية، وينهب خيرات تونس التي فوق الأرض ويحفر وينقب ويثقب عميقاً بحثا عن المزيد من الخيرات في بطن الارض،
وكان يسعى الى التحقير من شأن الثقافة العربية الاسلامية ، ويبشر بالثقافة الفرنسية التنويرية، وغيرها، كما كان يسعى إلى التبشير بالديانة المسيحية.

لقد استولى المعمّرون الفرنسيون على أخصب الأراضي الفلاحية، وهندسوها على النمط الزراعي العصري.

وكانت المدارس تُبْنَى بهدف نشر اللغة الفرنسية وثقافتها، وأقامت فرنسا المستشفيات لأبنائها المقيمين بتونس، وفتحت النوادي الثقافية، ودور العرض السينمائية لحراسة رموز الثقافة الفرنسية، والغربية، وعمّمت نوادي السينما باعتبارها الأداة الثقافية الأكثر حداثة.

وحافظت فرنسا الاستعمارية على زوايا الأولياء والأضرحة احتراماً للأمّية العميقة، ولكن اللافت للانتباه هو أنه لم يهدم الاستعمار الفرنسي بيتًا جميلاً، أو حوّل مسجداً الى كنيسة، أو اعتدى على معلم تاريخي ، فهو الذي كان يحفر في الأرض بحثاً عن الآثار للتدليل على عراقة أرض تونس الثقافية قبل الإسلام.

ومن حيث المعمار، والآثار إجمالاً، كان الاستعمار الفرنسي يحترم دور العبادة الإسلامية، ويبني دور الثقافة، وينشر الحدائق العمومية ويوسع في المساحات الخضراء، وكان وفيًّا لاسمه: كان استعمارًا ، ولم يكن استدماراً .

3-
وكان الشاعر أبو القاسم الشابي في ثلاثينات القرن العشرين، لا يستنكفُ من وصف الشعب، في لحظات الغضب، أوصافًا سلبية، مثل رميه بالجهل، ونعته بالخنوع والقبول بالدون، وقصيدته الغاضبة على الشعب تتجلى في المعاني التي ضمنتها أبيات كثيرة مكثفة. في قصيدة "النبي المجهول" ومطلعها:
"أيها الشعب ليتني كنت حطاباً فأهوي على الجذوع بفأسي".

4-
أخيراً ، وبعد مرور أكثر من قرن من الزمان على ميلاد الشاعر الشابي1909، انتهى كل شيء، وتمّ مَحْوُ البيت الذي صرخ فيه الشاعرُ المريدُ صرختَهُ الاولى، وتحوّل على ذمة المقاول المعطر بثورة الياسمين.

5-
البيت كان سنة 2010 دون سقف. هذا البيت الحجري كانت متداعية جدرانه، متنادية حجارته للعودة الى الأرض.

هذا البيت ، كان من الممكن ترميمه، لتجعل منه وزارة الثقافة معلمًا وأثراً على عبقرية البيت الحجري الذي صنع شاعراً يبني بيوتا من حروف وأجراس، ولتعمل منه وزارة السياحة مُتحفًا.

في هذا البيت الواقع الان أرضاً، تحت سماء الشابي الأولى، والمهدوم قبل أيام، ضاعت صرخة ميلاد الشابي، وسوّاه المقاولون بالأرض.

ولو كانت تونس واقعة تحت الاستعمار الفرنسي، لما سمح للرجال " البلدوزرات" بأن يسوّوا بيتَ الشاعر المتمرد بالأرض الخراب .

5-
انتهى ذلك البيت الذي كان صرحاً من بناءٍ فهوى.
ومع تلك النهاية التي عرفها، وبعد الدمار الشامل، يأتي الخبر السياسي المكابر ليقول:
إن أحد القياديين في حزب الرئيس الباجي قايد السبسي، يصرح يوم الأثناء 27 سبتمبر 2016 إن رئيس الجمهورية تعهد، خلال لقائه به أمس الاثنين (26 سبتمبر 2016 ) في قصر قرطاج، بإنقاذ منزل شاعر تونس الفذّ أبو القاسم الشابي باقتنائه وتحويله إلى متحف. الهدم نفسه صار محل تكذيب رغم الوقائع التي لا تقبل الشك أو الطعن.

وتسأل عن الوعد بتحويل البيت إلى متحف فلا تجد في الصورة عند (غوغل الارض) غير آثار دمار، وأرض جاهزة للمقاولين المتحدين من أجل الحفر من جديد، لا بحثاً عن مخطوطات أو كنوز تركها الشابي، ولكن عن عمارة جديدة قد تحمل اسم ( إقامة أبي القاسم الشابي ) !

6-
انتهى الأمر، ولا أثر للبيت الذي لن يوافق الاستعمار الفرنسي على هدمه أبداً.