الخميس 29 سبتمبر 2016 / 18:27

جبرا إبراهيم جبرا في "البئر الأولى"

البئر كانت منبع الحياة لمئات القرى الفلسطينية أحالت جبرا إلى دلالتها المجازية ف"البئر في الحياة إنَّما هي تلك البئر الأولية التي لم يكن العيش بدونها ممكنًا

عندما شرع الأديب والناقد الفلسطينيَّ جبرا إبراهيم جبرا في مشروعه السرديّ لكتابة سيرته الذاتية وجد أنه من الاستحالة بمكان أن يستطيع تدوين سيرة حياته كاملة بكافة تفصيلاتها الصغيرة بقدرٍ من الدقة في التوثيق؛ ذلك أنَّ هذا التدوين سيستلزمُ منه العودة إلى أرشيف ضخم من المدوّنات، وخاصة الرسائل المتبادلة بينه وبين المئات من الأشخاص في مختلف أنحاء المعمورة وهي رسائل بالآلاف مكتوبة بالعربية وبالإنكليزية. ولأنَّ ما يوجد في حوزة جبرا من هذه الرسائل أقل من القليل فقد فضّل تجاوز هذه المدوّنات الضخمة التي لا قبل له باستكمالها واكتفى بالسنين الأولى من حياته: ابتداءً من طفولته إلى انتهاء دراسته في إنكلترا ثم سنوات دراسته في أكستر وكمبردج وأكسفورد. ولهذا فإنَّ سيرة جبرا الذاتية جعلها في كتابين أو جزأين ؛ الجزء الأول ذاكرة الطفولة الأولى وتحمل اسم "البئر الأولى "، وسنبين بعد قليل حمولات هذا العنوان والجزء الآخر ذاكرة الشباب الأولى وسنوات النضج وجعلها في الجزء الثاني الذي حمل عنوان "شارع الأميرات". والجدير بالذكر أنَّ سيرة جبرا الذاتية لم تقتصر فقط على هذا الكتابين إذ تتناثر مقاطع من سيرته الذاتية في رواياته المختلفة. يقول جبرا:" وعندما أخذتُ أراجع نفسي بشأن أحداث هذه الطفولة، وجدتُ أنني، عبر أكثر من أربعين سنة من الكتابة، استعرتُ العديد منها في مقالاتي وقصصي القصيرة، وبخاصة في رواياتي. فهل أتناولُ بعض ما كتبته هناك كأجزاء إيضاحية أو قصصية، وأعيد كتابته في سياق جديد، كترجمة ذاتية صرف؟ لا لن أفعل ذلك. ولأترك على حاله ما صغته من طفولتي قصصًا وأحداثاً روائية، وللدارسين أن يستخلصوه ويفهموه كيفما شاؤوا. ولأتناول ما لم أدخله في صياغاتي تلك وهو ليس بالقليل".

يعترف جبرا أنه لجأ إلى الحذف والانتقاء فيما يتعلق بذاكرة الطفولة؛ فثمة أحداث تبرز أكثر من سواها لذاكرة مزدحمة بالتفاصيل؛ ولهذا فإنَّ المحو والإلغاء والطمس والانتقاء كانوا أبرز الآليات السردية التي لجأ إليها جبرا في تدوينه لذاكرة طفولته الأولى بتشكلاتها المدهشة. إذن لا يشكل سرد الطفولة المبكرة عند جبرا سوى السنوات الثمانية الأولى التي انتهت بانتقاله مع والديه من بيت لحم إلى القدس عام 1932.
ما سر اختيار جبرا لعنوان "البئر الأولى" كي يصدّر بها الجزء الأول من سيرته الذاتية؟ إنَّ البئر التي كانت منبع الحياة لمئات القرى الفلسطينية أحالت جبرا إلى دلالتها المجازية ف"البئر في الحياة إنَّما هي تلك البئر الأولية التي لم يكن العيش بدونها ممكنًا. فيها تتجمع التجارب، كما تتجمع المياه، لتكون الملاذ أيام العطش. وحياتنا ما هي إلا سلسلة من الآبار. نحفر واحدة جديدة في كل مرحلة. نسرب إليها المياه المتجمعة من غيث السماء وهمي التجارب، لنعود إليها كلما استبدّ بنا الظمأ، وضرب الجفاف أرضنا". إنَّ البئر الأولى عند جبرا هي بئر الطفولة، هي تلك البئر التي تجمعت فيها أولى التجارب والرؤى والأصوات، أولى الأفراح والأحزان والأشواق والمخاوف.

دخل جبرا مدرسة الروم الأرثوذكس وهو لايزال في سن الخامسة من العمر وقد وصف لنا صرامة تلك المدرسة المؤسسة على التقاليد الكنسية ثم انتقاله بعد ذلك إلى مدرسة "بيت لحم الوطنية". ويصف جبرا التنوع اللهجيّ في تلك المدرسة؛ فبخلاف مدرسة "الروم الأرثوذكس" القائمة على وجود طلاب ينتمون إلى بيئة واحدة كانت مدرسة "بيت لحم الوطنية" تضج بطلاب" ينطقون بلهجات متباينة.. فهناك تلاحمة وسواحرة وبجاجلة وخلاليلة وفواغرة وتعامرة، ولكل فئة لهجتها المتميزة. هذا فضلاً عن أنَّ الأولاد بعضهم مسيحي، وبعضهم مسلم.

لقد كان اكتشاف جبرا صندوق أخيه يوسف المليء بالكتب كشفًا أشبه بالعثور على كنز ثمين؛ فقد غادرهم أخوه إلى القدس للعمل. وكان صندوقه الذي تركه يحوي كتبًا ثمين اشتراها على مدى سنوات منها "بحر الآداب" و"مجاني الأدب في حدائق العرب" و"مغامرات روبنسون كروزو" و"ألف ليلة وليلة" وسير شعبية مثل سيرة عنترة وتغريبة بني هلال وغيرها.

انتهت ذاكرة الطفولة عند جبرا بمغادرته مع عائلته إلى القدس الجميلة التي أخذ يكتشفها حيًا حيًا وحجرًا حجرًا ..و كانت هناك المجلات المصرية التي تحكي عن صراعات القاهرة السياسيّة ومعاركها الأدبية.. كان هناك الأساتذة الجدد يعودون من جامعات العالم يضخون في جبرا وزملائه عشق المعرفة.. كان هناك الرسم بالقلم والألوان المائية وكانت هناك الموسيقى: العود والغيتار والكمان وعوالم الصخب والمرح. وكانت هناك أيضًا "الكلية العربيّة "بعميدها الأستاذ أحمد سامح الخالديّ ذي الكارزما التربوية القوية وكان هناك الوعي السياسيّ والمظاهرات والإضرابات والحزن المفجع بوفاة أخته وهي لاتزال ابنة التاسعة من العمر في أوج نضارتها.

شكّلت كتابة ذاكرة الطفولة الأولى بالنسبة إلى جبرا تحدياً كبيرًا ومغامرة كان لابد له من خوضها وفي رأيي الخاص نجح جبرا في ذلك التحدي وفي ذلك الانتقاء لتوليفة طفولية مدهشة . يقول جبرا:" أنا لا أكتب تاريخًا لتلك الفترة، ثمة من هم أعلم ، وأجدر، وأبرع مني في سلسلة ووصف أحداث العشرينات وأوائل الثلاثينات في فلسطين. ولا أنا أكتب هنا تاريخًا لأسرتي، لأنَّ ذلك شأنًا آخر، ولا أزعم أن لدي القدرة عليه.

ولا أنا أكتب تحليلاً اجتماعيًا لبلدة فلسطينية كانت يومئذ صغيرة، لا يتعدى سكانها خمسة آلاف نسمة(...) إنَّ ما أكتبه هنا شخصي بحت، وطفولي بحت. ومقتربي يتركز على الذات إذ يتزايد انتباهها، ويتصاعد إدراكها، ويعمق حسها. ولا تنتهي بالضرورة حيرتها. ولئلا أنزلق إلى التاريخ العائلي بتفرعاته( وفي ذلك ما فيه من الإغراء) آثرت الاستمرار باستقصاء كينونة واحدة تتنامى مع الأيام وعيًا ومعرفة وعاطفة، تحيا براءتها، وتتشبث بها، والبراءة تزايلها. وهي طبعًا جزءاً من محيطها: إنها بعض تلك البيوت والأشجار والوديان والتلال. بعض الشموس والأمطار والوجوه والأصوات، التي بها تحيا، وبها تكتشف القيم والأخلاق، وتكتشف الجمال والقبح والفرح والبؤس جميعًا". وبالفعل من يقرأ سيرة جبرا سيجد أنه كتب سردًا مدهشًا لتاريخ طفولته على طريقته الخاصة فهو لم يكتب تاريخًا ، والسياسيَّ إنّما يأتي متعالقًا في سياق السرديّ الطفوليّ بصورة ليست مقحمة ووفقًا لمسارات جبرا الروائية الخاصة التي تميزه عن سواه من الروائيين العرب. ولحديثنا عن جبرا صلة قادمة.