الخميس 20 أكتوبر 2016 / 19:52

حين فقدنا اللغة

الفجوة تتسع بين القيادة وبين الشارع، وهي فجوة مركبة ويصعب ردمها أو ايقاف انهيارها، اذ تتداخل فيها عزلة "المقاطعة" وغرفة اتخاذ القرارات ومخيلة خلية القيادة ومعاييرها من جهة، وبين مطالب الشارع واسئلته، بين مجتمع فتي يحدق في مستقبله في مواجهة الاحتلال وتغول القطاع الخاص وقيادة هرمة تتغذى على ماضيها وتعيد انتاجه وتواصل انسحابها من الراهن نحو زمنها الخاص

لا أدري بالضبط إذا كانت الدعوة التي وصلتني للمشاركة في مؤتمر "مصر والقضية الفلسطينية" الذي يعرف أيضاً، غالباً في سياق غير محايد، ب "مؤتمر عين السخنة"، رسمية أم مجرد اتصال هاتفي من صديق أحترم خياراته، ولكنني اعتذرت لأسباب كثيرة منها عدم وضوح الدعوة واكتفاء الجهة الداعية، التي لم تكن واضحة أيضاً، بحضوري مجرداً دون اقتراحات محددة. رغم أن فكرة انعقاد مؤتمر وطني فلسطيني تدعو له وتنظمه القوى الحية في المجتمع الفلسطيني، أصبح ضرورة وطنية خاصة في ظل الشلل الذي تعاني منه المؤسسات التمثيلية الفلسطينية.

فالمجلس التشريعي الذي اختاره الفلسطينيون في انتخابات 2006 معطل تماماً منذ انقلاب حماس في غزة 2007، وينحصر نشاط أعضائه، نواب الشعب المفترضين، في تلقي الرواتب، وهي مجزية قياساً بمعدل الدخل في فلسطين، وقيادة السيارات الرسمية، والاجتماع بين وقت وآخر، بناء على طلب "جماعتهم السياسية"، ويكاد هذا النشاط ينحصر بنواب حماس في غزة، الذين شاركوا بحيوية في مديح الانقلاب ومنحه الشرعية ورافقوه في مراحله الدموية الأولى، وواصلوا، بمثابرة غريبة، في تعزيز الانقسام وتحويله الى واقع في الحياة السياسية الفلسطينية، يمكن هنا، من باب توضيح هذا الدور، الإشارة إلى اجتماع كتلة حماس النيابية في غزة الأسبوع الماضي والذي خرج بعده المجتمعون ببيان يطالب "اسماعيل هنية "، نائب رئيس حركة حماس الذي وصل إلى الدوحة بعد أدائه الحج ومكث هناك بانتظار انتخابه رئيساً للحركة، بتشكيل حكومة جديدة في قطاع غزة بدل "حكومة الوفاق" التي يرأسها رامي الحمدالله، والتي أفرغتها حماس من دورها ومنعتها بشكل علني من ممارسة مهماتها في غزة.

عملياً، انتهى التكليف الشعبي لهؤلاء النواب منذ ست سنوات، وانتهى أثرهم في الحياة الفلسطينية ودورهم في خدمة ناخبيهم منذ عشر سنوات، السبب الوحيد الذي يبقيهم في مواقعهم هو "الانقسام" وغياب إمكانية "المصالحة" وبالتالي إجراء أي انتخابات سواء البلدية أو التشريعية أو الرئاسية، هذا الواقع هو ما يمنحهم حجة "البقاء"، وهي حجة ضعيفة ولا تمنحهم الشرعية، ولكنها توفر لهم سلسلة طويلة من المنافع الشخصية وتوفر لأحزابهم غطاء بائسا لمواصلة التحكم بمصائر الفلسطينيين.

المجلس الوطني، برلمان منظمة التحرير، معطل أيضاً، رغم الدعوات التي تصدر بين وقت وآخر لانعقاده وتجديد انتخاب أعضائه، بما فيها الحديث حول انعقاده قبل نهاية العام، وهو أمر يكاد يكون مستحيلاً بسبب طبيعة تشكيله، ولكنه في الأثناء، وهي "أثناء" طويلة ولا نهائية، يشكل غياباً ثابتاً ويفتقر الى الثقة، بحيث تأخذ الدعوات لانعقاده مسار الاشاعة وتبدو أقرب إلى التهديد منها الى استعادته من غيبوبته التامة.

المجالس البلدية والمحلية معلقة خارج الثقة وخارج التكليف المجتمعي بعد تعثر إجراء الانتخابات في مجالسها، وقرار المحكمة العليا بعدم اجرائها في غزة وما تبعه من اعادة تكليف المستقيلين وتمديد بقائهم في مواقعهم.

لا شيء يحدث في هذا السياق الغريب الذي تعيشه المؤسسة السياسية والمحلية الفلسطينية.ولا شيء يمكن أن يحدث أيضاً.

الفجوة تتسع بين القيادة وبين الشارع، وهي فجوة مركبة ويصعب ردمها أو ايقاف انهيارها، اذ تتداخل فيها عزلة "المقاطعة" وغرفة اتخاذ القرارات ومخيلة خلية القيادة ومعاييرها من جهة، وبين مطالب الشارع واسئلته، بين مجتمع فتي يحدق في مستقبله في مواجهة الاحتلال وتغول القطاع الخاص وقيادة هرمة تتغذى على ماضيها وتعيد انتاجه وتواصل انسحابها من الراهن نحو زمنها الخاص.

لقد فقدنا اللغة هنا.

لذا ستبدو الدعوة الى "مؤتمر وطني" بمشاركة من مؤسسات المجتمع المدني بكافة أطيافه، مؤتمر تدعو له هذه المؤسسات وتعبيراتها المجتمعية، والشخصيات المستقلة والأكاديمية والكفاءات والقوى الوطنية، لوضع أولويات المرحلة القادمة، واستعادة الحوار المتعدد الحقيقي، مثل هذه الدعوة تبدو الآن ضرورة وطنية قصوى.

هذه الشمولية المبنية على الشراكة هو ما افتقدته تلك الدعوة ل "مؤتمر مصر وقضية فلسطين"، الذي اتضح أن الجهة الداعية له كانت "المركز القومي لدراسات الشرق الأوسط". والذي لم يخرج بيانه الختامي، كما وصلنا، عن السائد والمتداول، وهو بيان حسن النية، إذا جاز التعبير، امتلأ حتى حافته بالمناشدات للوحدة وإنهاء الانقسام وتفعيل منظمة التحرير، واختتم بعبارات بروتوكولية مهذبة شكر فيها الرئيسين المصري عبد الفتاح السيسي والفلسطيني محمود عباس.

مؤتمر عين السخنة أو ندوة مصر والقضية الفلسطينية لم يأت بجديد ولكنه، دون شك، أشار الى "الفراغ"، والحملة التي رافقت انعقاده وحمولاتها أوضحت بقوة مساحة هذا "الفراغ" وهشاشة الواقع السياسي الفلسطيني .

ولعل هذا تحديداً هو أهم نتائجه.