الخميس 20 أكتوبر 2016 / 19:53

الإعلام العربي.. بين الحرية والمسؤولية

حين آن لنا أن ننتقل من هذه المدرسة إلى مدرسة الإعلام الحر.. انتقلنا إليها بلا تمهيد، وبشكل مفاجئ وعفوي وإلى حد ما فوضوي، وتوهمنا أن هذه الحرية بلا مسؤولية، ودون ضفاف أو حدود

قبل شهور، باع رجل الأعمال نجيب ساويرس شبكة قنوات ON T.V التي يمتلكها إلى آخرين، وقال في تبرير ذلك إن هذه الشبكة لا تغطي نفقاتها، فضلاً عن أنها لا تجلب له إلا الصداع، فما تبثه من برامج لا يرضي أحداً، بل يغضب الجميع: الحكومة والمعارضة.. والسلطة والمجتمع، والمتشددين والمعتدلين، والشيوخ والشباب، والمحافظين والحداثيين، الذين يختلفون في كل شيء، ولا يتفقون إلا على شيء واحد، هو أن الإعلام بمختلف وسائطه، من الصحف إلى الإذاعات، ومن مواقع التواصل الاجتماعي إلى الفضائيات، هو المسؤول الأول والوحيد عما تعانيه الأمة العربية من مشاكل وصعوبات اجتماعية وسياسية واقتصادية.

وخلال الشهور الأخيرة، تتالت الشواهد التي تدل على أن شبكات البث الفضائي، تتجه إلى تجديد دمائها، بإجراء حركة تنقلات فيما بينها، شملت انتقال بعض الإعلاميين اللامعين، ببرامجهم - أو ببرامج شبيهة بها - من بعض الشاشات إلى شاشات أخرى، وتغيير بعض هؤلاء لطابع البرامج التي يقدمونها من السياسة التي لا تجلب إلا وجع الدماغ، إلى البرامج الاجتماعية والفنية وبرامج التسلية والترفيه.

ولم يكد موسم التجديد في الشاشات يبدأ، حتى بدا وكأن الأمور على صعيد الفضائيات المصرية، تعاني اضطراباً ما، ففي الأسبوع الماضي تفجرت مشكلتان لافتتان للنظر، تؤكدان أن السياسة الإعلامية الجديدة لهذه الفضائيات لم تستقر بعد، إذ أنهت ON T.V تعاقدها مع الإعلامية رانيا بدوي - التي انتقلت إليها من قناة أوربت مع عمرو أديب ليتشاركا في تقديم برنامج شبيه بالبرنامج الذي كانا يقدمانه على تلك الشاشة - بعد حلقة واحدة من ظهورها على الشاشة الجديدة، وأصدرت القناة بياناً قالت فيه بصراحة إن السبب هو الهجوم الحاد وغير الموضوعي الذي شنته رانيا على وزيرة الاستثمار.

وفى الأسبوع نفسه، أعلنت إدارة شبكة قنوات الحياة أن برنامجي واحد من الناس وبوضوح سيتوقف عرضهما لمدة ثلاثة أسابيع، لقيام مقدمهما عمرو الليثي بإجازته السنوية، وهو سبب لم يقتنع به كثيرون ربطوا بين هذا الإعلان المفاجئ عن الإجازة، وبين الهجوم الحاد الذي تعرض له الليثي على مواقع التواصل الاجتماعي قبله مباشرة، بسبب بث البرنامج الأول، لفقرة تحدث فيها أحد سائقي "التوك توك" عن ارتفاع الأسعار، بلهجة تحريضية، رأى المهاجمون، أنها فقرة مصطنعة وتخدم أهداف القوى التي تسعى لاستغلال الأزمة الاقتصادية للتحريض على مزيد من السعي لهز الاستقرار في مصر.

وتأتي هاتان الواقعتان، لتكملا مسلسل البرامج أو النجوم التي اختفت - خلال العامين الأخيرين - من بعض الشاشات، أو غيرت تخصصاتها تجنباً للمشاكل ولسوء الظن، لأسباب - وفي ظروف - مشابهة أو مختلفة بعض الشيء وارتبطت بأسماء مثل توفيق عكاشة ويسري فودة وريهام سعيد وباسم يوسف.. وعدد من مقدمي البرامج على شاشات التلفزيون المصري المملوك للدولة.

وبصرف النظر عن تفاصيل الوقائع ذاتها، فنحن أمام مشكلة تكشف عن عجزنا - حتى الآن - عن التوصل إلى قواعد وتقاليد صحيحة يستند إليها الإعلام المصري والعربي، بحيث تضمن هذه القواعد، حق المشاهد في معرفة الأخبار الصحيحة، وفي التعرف على مختلف الآراء، وفي التعبير عن رأيه، وحق المجتمع فى الأمن، وفى صيانة الحقوق المشمولة بالحماية القانونية، ومنها الحماية ضد التشهير وضد انتهاك الخصوصية، والابتزاز وضد استغلال حرية الإعلام للتحريض على العنف والإرهاب، أو لتصفية حسابات شخصية لا صلة لها بالمصالح العامة.

أما السبب فهو أننا قد عشنا طويلاً في ظل مدرسة إعلام التعبئة، وهي مدرسة تتعامل مع المواطن العربي باعتباره يملك أذنين وعينين، ولكنه لا يملك لساناً، وأن كل ما هو مطلوب منه، هو أن يستمع بأذنيه إلى ما يقوله له إعلام الحكومة، وينفذ ما ينقله إليه من توجهات رسمية، لأن ذلك يحقق له مصلحته ويضمن للوطن مصالحه، أما أن يكون له لسان يتكلم به لكي يعبر عن رأيه أو يدافع عن مصالحه، فليس وارداً.

وحين آن لنا أن ننتقل من هذه المدرسة إلى مدرسة الإعلام الحر.. انتقلنا إليها بلا تمهيد، وبشكل مفاجئ وعفوي وإلى حد ما فوضوي، وتوهمنا أن هذه الحرية بلا مسؤولية، ودون ضفاف أو حدود، وأنها حرية كل منا وحده، بصرف النظر عن حريات وحقوق الآخرين، ولم نتوقف أمام الحقيقة التي تقول إن الحريات العامة، ومن بينها حرية الإعلام، هي نقطة تماس بين عدة حريات، وإن المجتمعات التي سبقتنا في الانتقال من إعلام التعبئة إلى الإعلام الحر، قد اكتشفت من تجربتها أهمية أن يمارس الإعلام دوره من خلال مدونات أخلاقية يلتزم بها كل العاملين به، ويحاسبون على أساسها أمام نقاباتهم حساباً عسيراً قد يصل إلى الفصل من النقابة، وبالتالي الحرمان من مزاولة المهنة، وهي مدونات تجمع بين الحقوق والواجبات، وبين الحرية والمسؤولية، وتنص على أن الإعلام ليس ساحة لترويج الشتائم وبث الشائعات والبذاءات، وأنه يتعامل مع القراء والمستمعين والمشاهدين باعتبار أن لهم ألسنة كما أن لهم آذاناً، وأن من حقهم ألا يسمعوا أو يشاهدوا أو يقرؤوا إلا ما هو صادق من الأخبار، وتلزم الإعلاميين ألا يبثوا أي رأى من الآراء، إذا علموا أن الألسنة التي تسوقها لا تستهدف مصالح عامة!

وفض هذا الاشتباك بين الحرية والمسؤولية، وبين إعلام التعبئة والإعلام الحر، وبين حقوق الآذان وحرية الألسنة، هو المهمة العاجلة التي يتوجب علينا أن نشارك جميعا في القيام بها.