الخميس 20 أكتوبر 2016 / 20:07

السيرة الذاتية الأجرأ حتى الآن

فيا أيها الليليون والنهاريون، أيها المتشائمون والمتفائلون، أيها المتمردون، أيها المراهقون، أيها "العقلاء"...: لاتنسوا أنَّ"لعبة الزمن" أقوى منا، لعبة مميتة هي، لايمكن أن نواجهها إلا بأن نعيشَ الموت السابق لإماتتنا: أن نرقصَ على حبال المخاطرة نشداناً للحياة

هناك تشابه كبير بين سيرة الأديب الفرنسيّ جان جينيه الذاتية "يوميات لص" والسيرة الذاتية الأجرأ حتى الآن في الأدب العربيّ الحديث؛ أعني سيرة الروائي المغربيّ محمد شكري جميل في جزأيها "الخبز الحافي" و"زمن الأخطاء أو الشُّطار". جان جينيه كان لصًا داعرًا وقد كتب سيرته الذاتية التي يحتفي فيها بأيام اللصوصية والسجون ومحمد شكري هو الآخر كان لصًا ومارس في حياته شتى أنواع الموبقات ثم ختم نهاية مساره بأن أصبح روائيًا مشهورًا له عدد من الروايات التي اتخذتْ شهرةً عالميةً وترُجِمتْ إلى عدة لغات حية. وربّما كان حديثه عن المسكوت عنه في قاع المدينة من أهم الأسباب التي أدّت إلى نيله مثل تلك الشهرة والرواج العالميّ. يقول جان جينيه في مفتتح سيرته الذاتية:" ملابس السجناء مخططة بالأبيض والوردي. اخترتُ هذا المكان الذي يبهجني، تلبية لأوامر قلبي، ففيه على الأقل، أملك القدرة على رؤية المعاني التي أرغبها: العلاقة الحميمة بين الزهور والسجناء. فرقة وهشاشة الزهور هما من طبيعة النسيج ذاته لبلادة السجناء الوحشية، ويتجلى انفعالي في التذبذب بينهما، ولو رسمتُ سجينًا لزينّته بالزهور حتى يختفي تحتها، ويصبح بدوره زهرة جديدة عملاقة. لقد غامرتُ بالسير بحب، في الطريق الذي يسميه الناس شرًا ، فقادني إلى السجن، والرجال المحكومون بالشر، ليسوا دائمًا نبلاء، إلا أنهم يملكون فضائل الرجولة، وهم يندفعون برضا ودون شكوى بإرادتهم أو بسبب حادثة فُرضت عليهم، إلى الخزي والعار، بقوة اندفاع عاطفة الحب ذاتها التي تطيح بالبشر".

ثمّة صداقة عميقة انعقدت بين محمد شكري وجان جينيه ولعلَّ هذا ما يفسر لنا تأثر شكري الواضح بسيرة جينيه الذاتية "يوميات لص". لقد حوّلت السيرة الذاتية "الخبز الحافي" صاحبها من إنسان هامشي مغمور يرتاد حانات طنجة إلى روائي ذي شهرة عربية وعالمية. وقد كان الفضل في ذلك يعود إلى الجزء الأول من سيرته "الخبز الحافي"؛ لاعتماد هذا الجزء على السرد الروائيّ المحبوك بإتقان وهو الأمر الذي لم يستثمره شكري في الجزء الثاني من سيرته عندما اعتمد الكتابة "الشذرية"؛ أي كتابة مذكراته بصورة شذرات ونتف مما جعل من الصعوبة تصنيفها ضمن إطار أجناسي سردي محدد، وهو الأمر اللافت الذي أثار استهجان الناقد والروائي المغربي محمد برّادة وانتقاده لشكري. يقول برّادة موجهًا خطابه إلى شكري:" بعد قراءتي الأولى "لزمن الأخطاء" لفت نظري ابتعادك من النوع الروائي لسيرتك مثلما فعلت في "الخبز الحافي"، ولجوءك إلى كتابة شذرية تحمل عناوين فرعية وتشكل مجموعة من النوافذ والكوى تطل عبرها على مشاهد وأحداث، فضاءات وحيوات، تلتقطها عينا شخص يجهد في أن يلغي المساحة الزمنية الفاصلة بينه وبين ما عاشه ذات يوم، ولبلوغ ذلك، حرصتَ على أن تتجنبَ استعمال فعل "كان" ما أمكن، لتوهمنا بأنا ما تحكيه حاضر باستمرار أو هو مستقبل محتمل. كأنك تحوّل الماضي إلى حاضر لتعيش داخله، مناغياً للشخوص، ملامسًا الأمكنة، مشيّدًا من تلك المشاهد جزيرة تلجأ إليها عندما تضيقُ بواقعك اليومي المكرور حتى عندما تلتصقُ بما حدث وتنقله في اقتصاد مقتر، فإنَّ ما ترويه ينفلت بعيدًا عنك لينتصبَ مستقلاً، مستفزًا لمخيلتنا وتواطئنا".

لاشكَّ أنَّ عتبات النص تشكلُ مفاتيحه الأولى للاشتغال على أي تحليل أو تأويل؛ ولهذا تشكل افتتاحية "الخبز الحافي" مفاتيح تأويلية لقراءة نص هذه السيرة الذاتية المغايرة والمتجاوزة التي كتبها شكري منذ ما يقارب الثلاثة عقود، ويقول فيها:

صباح الخير أيها الليليون،
صباح الخير أيها النهاريون،
صباح الخير ياطنجة المنغرسة في زمن رئبقي.

ها أنذا أعودُ لأجوس، كالسائر نائمًا، عبر الأزقة والذكريات، عبر ما خططته عن"حياتي" الماضية_ الحاضرة...كلمات واستيهامات وندوب لايلئمها القول.

أين عمري من هذا النسج الكلامي؟
لكن عبير الأماسي والليالي المكتظة بالتوجس واندفاع المغامرة يتسلل إلى داخلتي ليعيدَ رماد الجمرات غلالة شفافة آسرة...

منذ سنتين مات "عَبْدُون فُرُوسُو"، البطل الحقيقي الذي أيقظَ مخيلتي وأعانني على تحمل القهر والحرمان وعنف الصراع الجسديّ...مات قبل أن أنشرَ قصة "الخيمة" التي استوحيتها من حضوره وتدفقه وشغفه بالحياة. أنتظر أن يُفرج عن الأدب الذي لا يجترُ ولا يراوغ: مثل هذه الصفحات عن سيرتي الذاتية، كتبتها منذ عشر سنوات ونُشِرَتْ ترجمتها بالإنجليزية والفرنسية والإسبانية قبل أن تعرفَ طريقها إلى القراء في شكلها الأصلي العربي.

لقد علمتني الحياة أن أنتظرَ. أن أعي لعبة الزمن بدون أن أتنازلَ عن عمق ما استحصدته: قل كلمتك قبل أن تموتَ فإنها ستعرفُ حتمًا طريقها. لايهمُ ما ستؤول إليه. الأهم هو أن تشعل َعاطفة أو حزنًا أو نزوة غافية.. أن تشعلَ لهيبًا في المناطق اليباب الموات.

فيا أيها الليليون والنهاريون، أيها المتشائمون والمتفائلون، أيها المتمردون، أيها المراهقون، أيها "العقلاء"...: لا تنسوا أنَّ "لعبة الزمن" أقوى منا، لعبة مميتة هي، لايمكن أن نواجهها إلا بأن نعيشَ الموت السابق لإماتتنا: أن نرقصَ على حبال المخاطرة نشداناً للحياة.

أقول: يخرج الحي من الميت.

يخرج الحي من النِتن ومن المتحلل. يخرجه من المتخم والمنهار.. يخرجه من بطون الجائعين ومن صُلْبِ المتعيشين على الخبز الحافي.
تحضر في سيرة شكري النساء والرجال مع تركيزه كما ذكرتُ على البعد الجسدي بصورة تكاد تكون لافتة جدًا، واحتفاؤه بسرديات الجسد دون خجل ومواربة، وكأنَّه يكتسب تلك الجرأة من علاقة الصداقة العميقة التي ربطته بالفرنسي جان جينيه الذي تتطابق حوادث حياته مع شكري بصورة كبيرة. وللهامشيين حضورهم الكبير في هذه السيرة؛ أليس محمد شكري كاتب السيرة واحدًا منهم عاش معظم حياته في مدن الصفيح وخبر حياة الجوع والتشرد ثم حوّل تلك المعاناة وذلك الشظف إلى سيرة ذاتية صادمة للمتلقين العرب؟! أقول صادمة لأننا لم نتعود تعرية ذواتنا بالطريقة التي فعلها شكري عندما جلس على كرسي الاعتراف وبدأ بسرد حياته بتفاصيلها جميعها دون حذف أو انتقاء، وتفوَّق بذلك حتى على جبرا إبراهيم جبرا في سيرته الذاتية التي لم تأتِ بجرأة سيرة شكري. ومن هنا فإنها ليست مبالغة عندما أصر وأؤكد على أنَّ هذه هي السيرة الذاتية الأجرأ حتى الآن في الأدب العربيّ الحديث!