الجمعة 21 أكتوبر 2016 / 18:01

الضباب السياسي والنظارة المثالية: من اليمن إلى الموصل

التوافق هو سياسة الحكماء، وهو ما يميّز سياستنا العربية في هذه المرحلة

خلال أسبوع من الأحداث السياسية الكبرى، والمعارك التاريخية، انطلقت أقلام الصحافيين إلى نقاشات عميقة حول مواقف الدول العربية وبعض دول الخليج، سواء من اليمن أو من الموصل ومن مصر، ومن ليبيا، وإذا ركزت سترى الشرر يطير من بين كل الحروف، في وقتٍ دقيق، فهل ما يحدث طبيعي؟

في الفترة الثانية من حكم الرئيس المصري السابق "الشهيد" محمد أنور السادات، اخترع مصطلح الضباب السياسي، ليعبر به عن بعض مواقفه ويفسر عدم حسم الأشياء، ولعله لو كان بيننا لفسر الرصاصات الطائشة التي تطلقها التيارات الفكرية والمحاور اليوم أحيانًا بأنّها تعاني من الضباب السياسي، ويمكنك بقليل من التركيز أن تجد لكل كاتب أو حتى تيار الموقف وضده خلال أقل من 5 أشهر، فمن الإشادة بحكمة قرار نأي إلى إدانته وغير ذلك.

مثلاً حربنا في اليمن، يطل البعض في لحظةٍ ما، ويقول، بأن إطالة أمد الحرب سيكون في صالح إيران. ويبقى هذا الكلام مثيرًا لمن هو طارئ على الساحة، ولكن لأن الضباب كثيف، ينسى الناس، أن من بدأ الحرب ومن يطيلها ليسوا إلا الإيرانيين وأذنابهم، العبارة على مافيها من حكمة غامضة إلا أنّ أساسها فاسد، ومشوش وما يحتاجه الناس هو أن يركّبوا نظارة تستحضر الأسباب التي جعلتنا نذهب إلى هناك.

هناك شهداء وهناك ضحايا، وهناك ألم في كثير من النواحي، ولكن قرار الحرب لم يكن قراراً طارئاً اتُخذ في جلسة مزاجية، كما يريد أن يروّج الإيرانيون في الحقيقة، بل كان قرارًا استراتيجيًا يستند في حقيقته على حكمة عربية وقيم وأخلاق من نقّب في تاريخ أجداده لن يتخيّل غيره. لقد انتمى الحوثي إلى دائرة الإسلام السياسي الحركي واختار الولاء للفقيه الإيراني، ليس لأن قناعاته العقائدية متوائمة معه ولكن ليكون في خاصرة الجزيرة خنجرًا، وتبجّح بذلك كثيرون، ولو تركنا عربان اليمن لذئاب إيران لكان عارنا يورّث، وحتى بحسابات السياسة الفجّة فإننا لو لم نقاتلهم هناك لصاروا على حدود دولٍ أخرى.

حسنًا، هل نرغم أحداً بتبني هذه الرؤية، أم أن الخليج مبني على مدار تاريخه على هذا التعدد مع سلامة النفس وقبول الآخر؟ الموتور والذي يرى الأمور حادة يضع الجواب، بأن الجميع سيكون على رأي واحد، ولكن الحقيقة أن لا إجماع يمكن تحقيقه في أي قضية، وأن التوافق هو سياسة الحكماء، وهو ما يميّز سياستنا العربية في هذه المرحلة.

إذًا كيف نعالج الضباب السياسي؟ لا علاج له فهو يثار مع عجاج المعركة، والحل الوحيد، هو بضبط نظارتنا على الأشياء، والاستماع إليها بدون زوائد، والانتباه للحقيقة والدوافع التي قيلت من أجلها، فأنا أراهن أن كثيرين اليوم يقولون حقائق فكرية وآراء يظنون أنفسهم ابتدعوها، وهم في الحقيقة لم يبتدعوا بل ابتلعوا للأسف الطعم من العدو وصاروا يقولون ما يقوله.

إذًا الحل الأول هو الانتباه لما نقول، والثاني التقريب بين الناس لا التفريق، والعودة للتاريخ وللأسباب المعلنة للتقليل من نظرية المؤامرة، وعلينا أن ندرك أن لا أحد يختار العلاج الصعب إلا إذا كان مسار المرض لا يداوى إلا به!

على المستوى السياسي، علينا بعث المواطنة والوطنية في خطابنا بشكل أساسي، لا يمكن أن نهمل أن جزءًا كبيرًا من الذي يحدث يقوم لمهاجمة "فكرة الدولة" وهزيمتها عبر تبني تفكير المليشيات.

فيا عزيزي القارئ، ضع النظارة وأشعل مصابيح الضباب، لا تهتم للمعارك التي تثار على الأطراف، ولا حديث اليائسين أو المستعجلين للحصاد. هناك مثل يقال أن عنترة تحداه أحد رفاقه فيعض كل واحد منهما أصبع رفيقه، وينتظرا لمعرفة من ينتصر بصراخ الآخر، فاز عنترة، إذ صرخ رفيقه، فقال عنترة "لو لم يصرخ لصرخت".

اليوم بجردة حصاد قصيرة، نرى أن الشرعية في اليمن تعود، وأن هدف إعادة الحوثي إلى طاولة الحوار يتحقق، وفي العراق لمن يرون الأمور بنظارة الطائفية (فقط)، فعلينا إدراك أن الألم هو ما يعيشه سكان الموصل تحت إمرة داعش، ونساء الإيزيديات، وأن أي جهد لتحريرهم مهما كان، هو جهد يجب أن نعلق الأمل عليه.

عززوا الدولة وحاربوا الإرهاب، وربوا أبناءكم على ثقافة التسامح وانبذوا ثقافة المؤامرة، تتعافى قلوبكم وعيونكم من الضبابية والشتات.