الشيخ زايد بن سلطان على الأرض في مكتبه متابعاً تطور تخطيط وإعمار أبوظبي في آخر الستينات (أرشيف)
الشيخ زايد بن سلطان على الأرض في مكتبه متابعاً تطور تخطيط وإعمار أبوظبي في آخر الستينات (أرشيف)
الإثنين 24 أكتوبر 2016 / 20:06

حكومة أبوظبي 50: من براميل النفط إلى كنوز المعرفة

24 - سليم ضيف الله

بالنظر إلى مسيرة الإنماء والبناء التي بدأتها أبوظبي منذ خمسين سنة، لا يفوت المتابع والمراقب، الربط بين لمسات الراحل الكبير الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، والصرح الهائل الذي أصبحت تعنيه أبوظبي في المنطقة العربية والعالم بشكل عام، ولكن لمساته لا تقل شأناً ومكانةً عن كلماته التي كانت توائم الفعل والإنجاز، والمعني الحقيقي لما كان يستند إليه وعليه مشروعه الحضاري في أبوظبي، بالاعتماد على الإرادة والعزيمة من جهة وعلى الموارد الطبيعية الهائلة المكتشفة قبل ذلك بسنوات قليلة، أي النفط.

في بداية مسيرة العمل الحكومي التي ترقى إلى 50 سنة، لم يكن أشد المتفائلين يتجرأ على تخيل الشكل الذي ستكون عليه أبوظبي بعد نصف قرن فقط، أو حجم الخطوات التي قطعتها في هذا الفاصل الزمني الخاطف في عمر الشعوب والدول، فالإمارة التي لم يتجاوز عدد سكانها في 1968 مثلاً 44.5 ألف نسمة، تطورت إلى قطب عمراني يضم ما لا يقل 2.5 مليون ساكن، محققة في نصف قرن من الزمن قفزة بأكثر من 56 مرةً، في إنجاز قياسي وغير مسبوق في العالم على الأرجح، ليس في حجمه فقط وأهميته، ولكن بسبب سلاسته ومرونته.

والثابت أن سكان أبوظبي في آخر الستينيات وبداية السبعينات الذين عايشوا هذه الانطلاقة التي شملت جميع مجالات حياتهم والقطاعات التي كانت تتصل بهم، لاحظوا وعايشوا انطلاق السباق ضد الزمان، ومسيرة التحديث والتعمير الضخمة التي أطلقها الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، إيماناً منه بالمبدأ الذي أسس له عندما قال في بعض أقواله المأثورة "يجب أن تستمر المسيرة على جميع الأصعدة، وتحت أي ظرف".

تحديات وجهاز
في بداية نهضة أبوظبي المعاصرة، توفرت الموارد النفطية المتعاظمة يومها بفضل الاكتشافات المستمرة التي جعلت من أبوظبي صاحب خامس أكبر احتياطي نفطي في العالم، لا يقل عن 10% من الاحتياطيات المؤكدة، في انتظار ما سيكشفه التطور العلمي والتكنولوجي، من إمكانات ضخمة أخرى غير معروفة في ظل الوسائل العلمية والتكنولوجية الحالية، وتوفرت أيضاً إرادة رجل تميز ببصيرة ثاقبة، وبقدرة على اختيار الرجال والأدوات المناسبة لتحويل الحلم إلى واقع ملموس، عبر أجهزة وآليات مثل الجهاز الحكومي الفعال الذي شهد هو الآخر على امتداد نصف القرن الماضي، مسيرةً مثيرةً من النمو والتطور، لمواكبة المستجدات ورفع التحديات في الوقت نفسه.

ورغم الزخم الهائل الذي أعطاه اكتشاف النفط لاقتصاد أبوظبي، منذ 1962 تاريخ تصدير أول شحنة نفط "ظبياني" إلى العالم الخارجي، وحتى اليوم، ورغم التوسع في أنشطة الحفر والاستكشاف والتنقيب براً وبحراً، حتى بلغت في ظرف لم يتجاوز تسع سنوات بين 1960 و 1970 فبلغت في تلك السنة 120 بئراً، إلا أن النفط لم يكن سوى سلعةً استراتيجيةً ومورداً حيوياً، ومنذ ذلك التاريخ لم يتحول إلى محور التنمية ولا إلى شريان الحياة الرئيسي في أبوظبي، على عكس تجارب كثيرة أخرى مشابهة في قارات العالم الخمس، التي اكتفت بالنفظ سبيلاً للنجاة والحياة.

واليوم وبعد هذه المسيرة المثيرة، يبدو النصف القادم من القرن، توأماً حقيقياً للنصف المنصرم من القرن، الذي مرّ على الجهاز الحكومي في أبوظبي، والذي تصدى من البداية بدفع من الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان الذي اعتبر أن "البترول يُشكل ثروة اقتصادية يستخدمها العرب من أجل التنمية والتقدم" مجرد وسيلة أو سفينة صحراء، لعبور المفازات الخطرة والعواصف الرملية المخيفة، في اتجاه وجهة آمنة ورصيف هادئ، قوامه الإنسان هدفاً وغايةً.

مدينة المعرفة
وعلى عكس مدن الملح والحرير، ومدن الفحم والفضة، لم تكن أبوظبي، مدينة نفط، أو بترول أبداً، النفط الذي كان مع مع زايد مجرد وقود في محرك التنمية، وطي المسافات، وبقي مع الشيخ خليفة بن زايد، رئيس الدولة حاكم أبوظبي، زيتاً ينير مصباح التحدي، ويعوض كما والده الراحل قبل ذلك "الرعيل الأول وجلدهم على خطوب الزمان وقساوة العيش"، ومجرد أداة كما يقول الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي ونائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، مهندس برامج الجهاز الحكومي الإدراي والاجتماعي والاقتصادي في أبوظبي، لتعبيد الطريق أمام أبناء أبوظبي ومن ورائها الإمارات، إلى النقلة النوعية المنتظرة، عصر ما بعد النفط، الذي تدخله أبوظبي بعد كل هذه التجربة الثرية والمثيرة، مصرة على الفوز بالجائزة الكبرى أو الكنز العظيم، اقتصاد المعرفة والعلم والابتكار، بفضل ما أتاحته سلعة النفط، على امتداد خمسين سنة، من ثروة تكدست ليس على شكل حسابات مصرفية وحدها، بل على شكل مجتمع جديد، متكامل، متوثب، لا ترهبه التحديات، ولا تهزه المخاطر بعد أن تسلح على امتداد نصف قرن بمضاد حيوي حضاري قوي، بالتخطيط لإقامة مدينة للعلم والمعرفة، على أنقاض النفط.

دعونا نجرب
بعد خمسين سنة، وفي انتظار النضوب المتوقع لزيت النفط "والاحتفال بتصدير آخر برميل نفط" كما جاء في كلمة الشيخ محمد بن زايد الشهيرة، ضخت أبوظبي إكسير النفط في كل بقعة من أرضها، بما سمح لها بمواجهة كل صعب ومستحيل، من الشجر إلى الحجر انطلاقاً من البشر، أو كما قال الراحل الكبير في كلمته الأشهر رداً على بعض المشككين: "كان الخبراء لا يشجعون على الزراعة، ويقولون إن نموها في أرضنا وسط هذا المناخ أمر مستحيل، فقلنا لهم: دعونا نجرب"، وعلى قدر التجربة كان الإبهار وعلى قدر الإصرار كان الإنجاز.

بعد عقد أو بعد عقود كثيرة، سينظر أحفاد زايد وخليفة ومحمد بن زايد، إلى أبوظبي بكثير من الإعجاب والتقدير وبكثير من الإجلال، لايقل عن الانبهار السابق بالأجيال التي سبقت الأجيال التي عايشت ما قبل النفط، وسيرون في هذه المادة الثمينة التي سمحت لآبائهم بتمهيد الطريق أمامه للفوز بالجائزة الكبرى الحقيقية، وبالسلاح الفعال الأول، المعرفة والعلم، وبالصناعة الأكثر مردوديةً ورواجاً صناعة الحاضر والمستقبل، أو كما قال صانع نهضة أبوظبي، ذات احتفال بالمعرفة وطلابها: "العلم كالنور، يُضيء المستقبل وحياة الإنسان، لأنه ليس له نهاية، ولابد أن نحرص عليه، فالجاهل هو الذي يعتقد أنه تعلم واكتمل في علمه، أما العاقل فهو الذي لا يشبع من العلم".

إن هذه الفلسفة التي قامت عليها النجاحات الماضية والحاضرة، والقادمة أيضاً، والتي ستكشف وحدها أنه متى تشبع أي شعب في العالم، بالقيم التي تسمح له بالتمييز بين الغث والسمين، وبين الثروة الدائمة والغنى الزائل مهما كان بريقه وإغراؤه، هي ذات الفلسفة النابعة من إيمان أبوظبي بأن المستحيل لا ينتمي إلى هذه المنطقة من العالم، خاصةً إذا كان حب المعرفة والعلم، أول الخصائص المشكلة لبصمتها الوراثية، والتي قال الشيخ محمد بن زايد مرة لوصفها: "ما من أمة تسعى لأن تحتل مكانا مرموقاً ومتميزاً، إلا وأولت العملية التعليمية والتربوية اهتماماً بالغاً، تستطيع من خلالها بناء جيل واعٍ متمسك بثقافته، وقيمه، وتقاليده أولاً، ثم قادر على التكيف مع تطورات العصر، ومعطيات التكنولوجيا الحديثة ثانياً".

والواقع أن أبوظبي التي لم تحد يوماً عن هذا الخط، قبل النفط، ومع النفط سابقاً، لن تحيد عنه اليوم مع عصر الحداثة والمعرفة والتكنولوجيا، نفط القرون القادمة بلا شك.