الأربعاء 26 أكتوبر 2016 / 18:12

صاحب كارامازوف

قال دوستويفسكي لزوجته في ذلك اليوم: يا آنَّا ادفنيني هنا، ولكن تذكَّري لا تدفنيني في مقبرة فولكوفويه ضمن مدافن الأدباء، لا أريد الرقاد بين أعدائي

سأل كثيرون آنَّا غريغوريفنا أين سيتم دفن زوجها الحبيب فيودور ميخائيلوفيتش دوستويفسكي؟ ولكونها تعرف أن فيودور ميخائيلوفيتش أعرب أثناء دفن الشاعر نيكراسوف، عن إعجابه بمقبرة نوفوديفيتشي، فقد قررت أن تدفنه فيها. قال دوستويفسكي لزوجته في ذلك اليوم: يا آنَّا ادفنيني هنا، ولكن تذكَّري لا تدفنيني في مقبرة فولكوفويه ضمن مدافن الأدباء، لا أريد الرقاد بين أعدائي. يُعلِّق إيغور فولغين بقسوة في كتابه عن دوستويفسكي "التأرجح على الهاوية": إنه يود الرقاد جنب نيكراسوف أقرب أصدقاء أعدائه الأدبيين، البعيد كل البعد عن أفكاره. القسوة مردها أن دوستويفسكي كان متهماً بلا عقلانيته التي تؤثر على أحكامه وأقواله. إن انفعالاته لها اليد الطولى على كل شيء يمس شخصياته الروائية أو يمس حياته أيضاً. فالراهب القديس زوسيما في رواية "الإخوة كارامازوف" يسجد فجأةً منفعلاً على ركبتيه محيياً ديمتري فيدروفيتش كارامازوف تحية لا يستحقها. لبث ديمتري كارامازوف جامداً، وقال في نفسه: لقد ركع الراهب الجليل أمامي، فما معنى هذا؟ ربما سأل الشاعر الكبير نيكراسوف نفسه من عالَم آخر نفس السؤال العقلاني: لماذا بجواري؟ إذا لم تكن مئات الأسئلة العقلانية التي ترد في ذهن القارئ لروايات أو حياة دوستويفسكي، مُفعمة بروح اللا معنى والابتسامة وغموض الانفعالات، فلا جدوى من تلك القراءة، إلا إذا كان هذا التَصيُّد العقلاني هدفه الخفي هو أن يخصم من رصيد دوستويفسكي بشكل ما.

كانت الزوجة المُحبَّة آنَّا غريغوريفنا تكره الخوض في أحاديث الموت لا سيما إذا كانت من زوجها المريض فيودور ميخائيلوفيتش دوستويفسكي الذي يُرصِّع الحديث بفصوص جهامته الكريمة. لذلك حرصتْ الزوجة على تحويل حديث الموت والمقبرة بقدر الإمكان إلى مزاح، فقالتْ بأنها ستدفنه في مقبرة العظماء، مقبرة قلعة ألكسندر نيفسكي، وهي قلعة الشرف والامتياز. وبمقياس العصر الحديث لم تفلح كثيراً أنَّا غريغوريفنا في الإفلات من جهامة حديث المقبرة، لأن علينا أن نتخيَّل مستوى التراجيديا المرتفع لامرأة تعيش مع دوستويفسكي. ضحك الزوج قائلاً: إنهم لا يدفنون هناك سوى الواقعيين المؤثرين في الحياة العامة. وتكمل لوبوف فيودوريفنا تكملة الحوار الذي انقطع في مذكرات والدتها آنَّا غريغوريفنا. ألست واقعياً كبيراً من واقعي الأدب الروسي؟ إن لك الحق في أن تُدفن إلى جوارهم. سوف يتلو الأساقفة الصلاة على روحك الطاهرة، وسترتل جوقة المطرانية، وسيسير وراء جنازتك جمع حاشد. كانت آنَّا غريغوريفنا تساير زوجها، فهي تعرف أن مقبرة قلعة ألكسندر نيفسكي لا تُناسب الأسرة، لا من حيث المنزلة، ولا من حيث الدخل، وإن كانت تثق في عَظَمة زوجها، فهي لا تثق في تقدير تلك العَظَمَة. بعثتْ الزوجة شقيقها وزوج شقيقتها المتوفاة لدير نوفوديفيتشي لاقتناء مكان للدفن، بشرط أن يكون قريباً قدر الإمكان من قبر نيكراسوف. رئيسة الدير نوهت إلى بعض الصعوبات بشأن الموقع الذي اختارته آنَّا غريغوريفنا.

يقتنص إيغور فولغين تحفظ الزوجة المعتم حول المال، ويأتي بكلمات الابنة لوبوف فيودوريفنا التي حضرتْ مُداولات شراء المقبرة. رئيسة الدير طلبتْ مبلغاً كبيراً من المال، وبدت باردة أمام رغبة الأسرة في تحقيق أمنية دوستويفسكي الأخيرة. وقالتْ بأن الراهبات لا يعرفن إلى هذا العالَم الدنيوي، وأن مشاهير الدنيا ليس لهم في نظر الراهبات أي أهمية. أسعار القبور عندنا ثابتة، وليس في وسعنا تغييرها لأجل أحد، كائناً من كان. صرامة تقدير المال المُعلن من قِبَل رئيسة الدير لا تراه مُتعارضاً مع نفس الصرامة الدنيوية في تقدير المال. قالت ابنة آنَّا غريغوريفنا: لم يبق أمامنا سوى النهوض والانصراف من حضرة هذه المرابية المتشحة بلبوس الرهبان.

تحكي آنَّا غريغوريفنا أنه بينما ذهب الأقارب للتفاوض مع رئيسة الدير، زارها محرر صحيفة "وقائع بطرسبورغ" ف. كوماروف، وقال بأنه جاء نيابة عن مقبرة العظماء، ليعرض شرف ضم جثمان الزوج لمقبرة ألكسنر نيفسكي، الزوج فيودور ميخائيلوفيتش دوستويفسكي الذي كان غيوراً في دفاعه عن العقيدة الأرثوذكسية. يُشكك مرة ثانية إيغور فلولغين في رواية آنَّا غريغوريفنا، وينسب العطف والمن على جثمان دوستويفسكي إلى سيدة شهيرة في بلاط الدولة، وكأنها تُصلح ما أفسدته الكنيسة من عدم تقديرها لمكانة دوستويفسكي، ففي عام 1881، عام وفاة الروائي الكبير، لم تكن الكنيسة في روسيا منفصلة عن الدولة، فإذا ارتكبتْ الكنيسة خطأ ما، فإن الدولة تُصلح هذا الخطأ بلطف، دون التعرُّض للكنيسة بنقد مباشر.