الخميس 3 نوفمبر 2016 / 18:06

يزايدون وطنياً.. لأغراض أكثر من شخصية

‎ذات يوم غرد غرد الأستاذ أحمد أميري على صفحته في تويتر قائلاً: (هل هناك صحافة في أي بلد في العالم كُتب فيها أن انتقاد الجو، الجو يا ناس، أمر سيئ وعواقبه وخيمة ويضر باقتصادنا؟ نعم كتب هذا في صحافة الإمارات).

لعل التغريدة السابقة تمثل جزءاً من فهم البعض المبالغ فيه إزاء ما يدور داخل حدود الوطن، فهناك أشخاص وفئات من الناس تتصدر المشهد لتدلو بدلوها في كل صغيرة وكبيرة ليس بدافع حب الوطن ومصلحته، لكن من أجل المزايدات السلبية على الآخرين المحبين لوطنهم والمخلصين له، مستخدمين في ذلك أي وسيلة متاحة مباحة كانت أم غير مباحة من أجل البهرجة الإعلامية البحتة، ويظنون أن خدمة الهموم العامة تنحصر في بضعة تغريدات أو أسطر تُخول صاحبها أن يكون الناطق الرسمي باسمنا جميعاً، فيحددون للناس ما هو وطني وما هو غير وطني... ما هو محمود وما هو مذموم.

‎رأينا أناساً فيما سبق يضعون تصوراً مسبقاً للزي المسموح به "وطنياً" في اليوم الوطني، ويأمرون الأطفال والناس أن لا يحركوا العَلم ويلوحوا به ظناً بأن ذلك قد يسيء للرمز الوطني، دون أن يحددوا تعريفاً واضحاً لهذا التلويح المنهي عنه ... وسمعنا مراراً من يقول للناس لا تتحدثوا عن طقس وطنكم الحار حتى لا تُؤثروا سلباً على معدلات حالة الطقس وتصفوها كما هي لأن ذلك قد يضر بالسياحة ومن ثم يضر بالاقتصاد الوطني، وكان لزاماً على من يقدم مثل هذه النصائح الغريبة أن يراجع حالة الجو في المواقع المتخصصة ليجدها منشورة بكل شفافية، مما يعني بالضرورة بأن كل من يزور بلادنا على اطلاع بتفاصيل درجات حرارتها السيليزية والفهرنهايتية، لم يبقى إلا أن يوظفوا "هاكرز" متخصصين في مهاجمة مواقع الأحوال الجوية ليمسحوا المعلومات الطقسية ويتمكنوا من جذب السياح إلى الكمين! بلدنا ليس بحاجة إلى دعاية مثل هذه، فالسائح القادم من بعيد يبحث عن الرفاهية السياحية المختلفة عن جوّ بلده، فهو يبحث عن الشمس كما نبحث نحن عن المطر.

‎كذلك رأينا من يشكك في وطنية ذلك الشاب الذي مارس الغناء والتمايل بالزي الإماراتي متناسين عشرات المطربين الذين يتحركون يميناً ويساراً وهم يرتدون الزي الوطني في الحفلات والمناسبات العامة... ورأينا من يشكك في وطنية أحد الشعراء الجدد بدعوى كون شعره سخيفاً وتافهاً! ومع كون بعض كلام هؤلاء أكثر سخافة وتفاهة من الكلام الذي ينتقدونه، إلا أن الفارق بينهم أن ذلك الشاعر لم يؤذ أحداً ولم يُجبر أحداً على متابعته، أما هم فاخترقوا وطنية الآخرين ونشروا التلوث السمعي في ربوع الوطن ومع ذلك لم يشكك أحداً في وطنيتهم! ... ولا تستبعد غداً أن يفيض عليك هؤلاء بنظريات تجديدية تخبرك كيف تتصرف وتتكلم وتلبس -وطنياً- حسب الفصول الأربعة والأشهر الإثنا عشر بل وحسب متطلبات إكسبو 2020، وقد يحددون لك قياس كندورتك بالنسبة لطولك، وقُطْر عقالك بالنسبة لرأسك، وطول "فروختك" بالنسبة لبطنك، ولون نعالك بالنسبة لبشرتك!

‎هذه الفئة لا تفرق بين الرأي والحقيقة، فالحقيقة تقول أن درجة الحرارة في دبي اليوم هي ٣٠ درجة سيليزية، وأن مدينة البندقية تقع في إيطاليا، أما الرأي فهو أن تقول أنك تحب زيارة دبي، ويقول آخر إنه يفضل منطقة "صلالة" عليها، أو أن تقول أن رواية "مزرعة الحيوان" ممتعة ويقول آخر إن رواية "عزازيل" مملة... الحقيقة لا يتجادل فيها العقلاء، أما الآراء فهي محل نقاش بين الناس ولا يملك أحدٌ أن يفرض أحدها كحقيقة وهو يستخدم المباديء الوطنية... فما لا تحب سماعه يمكنك وضعه على "الميوت"، وما لا تريد مشاهدته يمكنك كبس زر إغلاقه، وخدمة الهاتف "المحلي" التي لا تُعجبك اقطعها... لا تُزايد على وطنية غيرك في الوطن، فليس على الناس أن يشاركوك ذوقك "الوطني" الخاص لأنك لست ظاهرة وطنية مُعجزة.

‎سجّل لنا التاريخ ظواهر وطنية متطرفة مثل "المكارثية" و"الشوفينية" ينبغي تمعنها جيداً حتى لا نكرر ويلاتها، فالمكارثية هي كارثة وطنية تعود تسميتها إلى السيناتور الأمريكي "جوزيف مكارثي" في بدايات الحرب الباردة بين القطبين الأمريكي والسوفييتي، والذي كان يوزع تُهم الشيوعية والعمالة والخيانة بدون دليل، وأدت اتهاماته الباطلة إلى سجن المئات من الأمريكان الذين ثبتت براءتهم لاحقاً، وبعد انقضاء هذه الموجة صار الناس ينظرون إلى "مكارثي" على أنه شخص غوغائي بعدما فشل في إثبات وجود جواسيس شيوعيين في وزارة الخارجية الأمريكية والحكومة الفيدرالية... أما الشوفينية فينسبونها إلى جندي فرنسي في جيش نابليون -اسمه نيكولا شوفان- كان يقاتل بضراوة دون النظر إلى قيمة ما يقاتل من أجله، ثم صار المصطلح يدل على الوطنية المتطرفة.

‎في كتابه (علم نفس تقدير الذات)، أطلق "ناثانيل براندن" لقب الميتافيزيقي الاجتماعي على ذلك الإنسان الذي يعيش حياةً ليست حياته الحقيقية، حيث يفي بتوقعات الآخرين منه ولا يفي بتوقعاته عن نفسه... يتوافق مع ظروف وقيم الآخرين لأنه يريدهم أن يروه طبيعياً مهما كلفه الأمر... يرتعش إذا رفضه الناس أو أظهروا امتعاضاً من تصرفاته حتى لو كانت في منتهى الطبيعية، ففلسفة حياته تدور حول الآخرين وليس حول نفسه... وهكذا ينصاع هؤلاء إلى واجبات وهمية لا تُلزم إلا أصحابها من أصحاب اللسان الطويل واليد القصيرة... إن تقدير الذات لا يحدث إلا عندما يقرر الإنسان أن يعيش وفقاً للعقل والمبادئ التي يتبناها وليس وفقاً لتلك التي رُسمت له من غيره.

‎تمنى الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة على المواطنين -في حديث فيه كثير من المصارحة- على أولئك الذين يقولون أنهم "أولاد زايد" أن يقولوها في المكان والزمان الصحيحين، وللعمل الصحيح... لأن هناك من يتشدق بهذه الكلمة ويلوك بها لسانه من أجل أوهامه "الوطنية" الخاصة وليس من أجل آمال الوطن... الوطن بحاجة إلى سواعد تَمُده عالياً في الآفاق وتزيد من انفتاحه على الآخر، أكثر من حاجته إلى ألسنة تختصره وتحاصره في مُكعبات ضيقة.