السبت 3 ديسمبر 2016 / 18:43

التبشير بدين غير الإسلام.. ومفهوم التسامح

مع التوجّه الإماراتي الواضح نحو ترسيخ التسامح الذي عُرف به هذا المجتمع منذ القدم، حتى صار للتسامح وزيرة إماراتية، وصار التسامح جزءاً من الهوية الإماراتية، تظهر بعض الأصوات في مواقع التواصل الاجتماعي من شباب إماراتيين تطالب بمراجعة بعض الأفعال التي تعد جرائم في القوانين الإماراتية، لأن تجريم تلك الأفعال ــ برأيهم ــ لا يتوافق مع تبني الإمارات لمفهوم التسامح.

من الأفعال التي يشير إليها هؤلاء وتعد جرائم في القوانين الإماراتية: التبشير بغير الدين الإسلامي، والأكل والشرب علانية في نهار رمضان، وتناول المشروبات الكحولية في غير الأحوال المصرح بها قانوناً، والممارسات الغرامية خارج إطار الزواج، وبعض التصرفات المعاقب عليها والتي تعد انتهاكاً للآداب العامة.

يرى أصحاب تلك الأصوات أن من مقتضيات التسامح ترك الآخرين يبشّرون بما يعتقدون، خصوصاً أن الكثير من دول العالم تتيح حرية التبشير بالأديان، أو حتى الدعوة لمناهضتها. وأن الإنسان حر يتصرف كما يحلو له ما دام سلوكه لا يضرّ بغيره، كالأكل في نهار رمضان، أو تناول الكحول، أو العلاقات خارج مؤسسة الزواج. كما يرون أن الآداب العامة معيار فضفاض، وهي تختلف من ثقافة إلى أخرى، بل يختلف الأفراد حولها في الثقافة الواحدة.

وإذ أجد نفسي متفقاً مع تلك الأصوات كمبدأ، في بعض ما تقول على الأقل، فإنني في الوقت نفسه آمل من أصحابها التفهّم وتقدير الأمور بطريقة أفضل، فثمة ظروف وأوضاع تجعل العقاب على تلك الأفعال أمراً لابد منه، وإن كان ثمة تشديد مبالغ فيه في مقدار ذلك العقاب، فالتشديد في العقوبات سمة في القوانين الإماراتية على أية حال.

في نهاية اليوم كما يقولون، يظل مجتمع الإمارات مجتمعاً خليجياً، ومن ثم لا تستطيع التغافل عن بعض الحقائق، فأولاً جميع الدول المحيطة بك، والتي أنت جزء منها، وهي جزء منك، تعاقب على تلك الأفعال بطريقة أو بأخرى. وثانياً هناك تديّن كبير في مجتمعك، ولا يمكن أن تفصل تماماً جوّك الخاص عن الجو العام الذي يخيّم على المنطقة الخليجية بأسرها، خصوصاً أنك تغرد في الكثير من المسائل خارج السرب.

ومجتمع الإمارات عربي، وثمة قيم عربية تهيمن على أي مجتمع عربي ويصعب تجاوزها، سواء أكانت تلك القيم حسنة أو لم تكن كذلك، وسواء كنت ترغب في تجاوزها أو لم تكن ترغب في ذلك من الأساس، فالعلاقات الغرامية خارج إطار الزواج مثلاً مسألة لا يمكن أن يبلعها الفرد العربي، على الأقل في الظاهر، ونحن نرى ما يحدث تحت ما يسمى "جرائم الشرف".

فإذا قيل إن الأجانب، الغربيين تحديداً، يتقبّلون مثل تلك العلاقات ما دامت تحدث بين بالغين وبالتراضي، فالجواب أن القانون لا يمكن تفصيله لجنسيات محددة، والناس أمامه يفترض أنهم متساوون، فلا يمكن أن يصدر قانون يعاقب على العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج بين العرب، ويسمح في الوقت نفسه لتلك العلاقات بين من يعتبرون العلاقة الجنسية بالتراضي أمراً شخصياً ولا يجب أن تعاقب عليه القوانين.

ومجتمع الإمارات مجتمع إسلامي، وهناك تراث ديني ضخم لا يمكن للجان صياغة القوانين وضعه تحت سجادة مكان اجتماعهم، ثم المضي في صياغة قوانين لا تتوافق مع ذلك التراث، خصوصاً أن هذا التراث لم يترك شاردة أو واردة إلا قال كلمته فيها، وإذا كانت هناك أصوات تعتقد أن الماضي لا سلطان له على الحاضر، فثمة أصوات في المقابل، تعتقد أن الحاضر يجب أن يكون ظلاً للماضي.

وإذا أخذنا مسألة التبشير بغير الدين الإسلامي مثلاً، فكيف يمكن التسامح مع هذا الفعل وأنت تحمل على ظهرك تراثاً غير متسامح أبداً مع هذه المسألة، بل ثمة اتجاهات في هذا التراث تحثك على غزو بلاد غير المسلمين وإرغام أهلها على اعتناق الإسلام، أو فرض الجزية عليهم إذا كانوا أهل كتاب، بل وتعتبرك مذنباً ومقصّراً إذا لم تفعل ذلك؟!

وسيضيع جهد المرء عبثاً وهو يبحث في كتب التراث عن مقولة واحدة، ولا أقول فلسفة كاملة، تدعو للتسامح مع نشر الآخرين أديانهم في ديار المسلمين، وربما وجد المرء في كلمات العارف بالله ابن عربي شيء من هذا القبيل، لكن هذا الرجل نادر ندرة الكبريت الأحمر، وهو وما يدعو إليه على أية حال غير مقبول في مجمل التراث.

والمجتمع الإماراتي الخليجي والعربي والإسلامي، يقع أيضاً في إقليم ملتهب، أعني الشرق الأوسط، والكثير من أسباب القلاقل في هذا الإقليم المضطرب دائماً يتعلق بقضايا غياب التسامح الديني والعرقي، و"كفو" على الإمارات أنها استطاعت المحافظة على استقرارها بإيجاد نوع من التسامح في منطقة مشتعلة أساساً بسبب غياب التسامح.

هذا والمقال لم يشر لا من قريب ولا من بعيد بأوجه التسامح الإماراتي التي يعجز كاتب هذه السطور تتبعها والإشارة إليها، فالمقال جاء ليناقش فكرة عدم تعارض القوانين الإماراتية ــ بوجود تلك الاعتبارات ــ مع مفهوم التسامح، خصوصاً أن المساحة التي تعمل فيها تلك القوانين ضيقة كثيراً بالقياس إلى مساحة التسامح المتاحة في الأمور التي تنظمها تلك القوانين، فالتبشير بغير الدين الإسلامي معاقب عليه فعلاً، كمثال، لكن في المقابل حرية العبادة لغير المسلمين متاحة.

وعند وضع هذه الاعتبارات معاً في سطر واحد، مجتمع خليجي وعربي وإسلامي وشرق أوسطي، فإننا يمكن أن نعرف شكل نقطة نهاية السطر، وهي نقطة، مع كل تلك الاعتبارات، مضيئة وتستحق منا إعطاءها حقها من الإشادة والتقدير والتفهّم.

يقول الدكتور علي بن تميم "الشمس وإن كانت مصدراً للدفء فإنها عنصر من عناصر الاحتراق، إذاً ينبغي المحافظة بكل السبل على كرة الثلج والنار معاً، ثمة مكان دافئ نلجأ إليه".