الأحد 4 ديسمبر 2016 / 19:17

نظام آل الأسد ومصادر شرعيته

في اللحظة التي يبدو فيها النظام وكأنه على وشك الخروج من عنق الزجاجة، تبدو علامات فقدان الشرعية الأخلاقية، وممارسة دور القوّة الاحتلالية الغاشمة، أكثر وضوحاً من أي وقت مضى

تستمد أنظمة الحكم شرعيتها الأخلاقية من مصادر شرعياتها الاجتماعية والسياسية، وفي حال إفلاس تلك المصادر، تسقط شرعيتها الأخلاقية، ويمكن لها أن تبقى في سدة الحكم، ولكن بوصفها قوّة غاشمة تحتل البلاد وتستبيح العباد.

على خلفية كهذه يمكن الكلام عن التقدّم الذي يحرزه نظام آل الأسد، مدعوماً بالروس، والإيرانيين، وحزب الله، وميليشيات طائفية مختلفة، في حلب، وغيرها من المناطق السورية المنكوبة. ففي اللحظة التي يبدو فيها النظام وكأنه على وشك الخروج من عنق الزجاجة، تبدو علامات فقدان الشرعية الأخلاقية، وممارسة دور القوّة الاحتلالية الغاشمة، أكثر وضوحاً من أي وقت مضى.

لم يكن النظام، عشية الحرب الأهلية، مجرّداً من كل مصادر الشرعية الاجتماعية والسياسية. فقد استمد شرعيته الاجتماعية من تمركزات، وتحيّزات، طائفية، كان حريصاً على تمويهها بأقنعة تمثيلية تزعم التعبير عن إرادة الغالبية العظمى من السوريين، ولكن ضرورات البقاء، بعد اندلاع الثورة السورية، أرغمته في الداخل والخارج على نزع تلك الأقنعة، والاحتماء بتمركزات وتحيّزات طائفية، تظاهر على مدار عقود سبقت، بالترفّع عنها.

وفي السياق نفسه، استمد النظام مصادر شرعيته السياسية من زعم الحفاظ على السلم الأهلي، وتعزيز الدولة المركزية، بعد سلسلة الانقلابات التي عصفت بسوريا، في ستينيات القرن الماضي. واستثمر في القضايا "القومية"، وفي صلبها الصراع العربي ـ الإسرائيلي، والجولان المُحتل، كما استثمر، خاصة في عقوده الأولى، في أيديولوجيا اشتراكية كانت قادرة على "إقناع" البعض بتأجيل الحق في الحريات العامة، وحقوق الإنسان، وقبول سطوة الدولة المركزية، وتوريث الحكم، كشر لا بد منه.

وإذا كانت جدوى المضاربة، والاستثمار في القضايا القومية، وفي أيديولوجيا الاشتراكية، والدولة المركزية التسلطية، قد تآكلت على مدار عقود سبقت، وتحوّلت إلى مجرد ورقة توت لم تعد تُخفي بقدر ما تفضح، فإن رفضه التفاوض مع المعارضين، ورهانه على الحرب الأهلية، لم يبرهنا على فشله في حماية السلم الأهلي، والدولة المركزية وحسب، بل وكشفا حقيقة أنه أصبح يمثل تهديداً للسلم الأهلي، والدولة المركزية، أيضاً. وبهذا المعنى سقطت كل المصادر المُحتملة لشرعيته السياسية.

لذلك، يصعب النظر إلى التقدّم الذي يحرزه النظام على الأرض كدليل على احتمال خروج السوريين من نفق الحرب الأهلية الطويل، بكل ما فيه من ضحايا وعذاب ودماء ودموع. فكل ما يحدث أن حرباً أهلية تتناسل من حرب أخرى، وأن بذور الحرب القادمة تُبذر الآن، في ظل فقدان النظام لشرعيته الأخلاقية، بعد افتضاح أمر الشرعيتين الاجتماعية والسياسية. وفي واقع كهذا ما يعيق كل إمكانية لترميم سوريا كمجتمع ينعم بالسلم الأهلي، وكنظام يحظى بشرعية تمثيلية جامعة، في قادم الأيام.

ولذلك، أيضاً، نجابه واقعاً غير مسبوق. فالتمركزات المتضاربة، المحلية والإقليمية والدولية، التي مكّنت النظام ومعارضيه من البقاء حتى الآن، ولم تمكّن أحدهما من تحقيق انتصار ساحق على الآخر، هي نفسها التي ستجعل من إمكانية استعادة السلم الأهلي، وترميم حياة سوريا والسوريين، أمراً في غاية الصعوبة.

لذا، نجد نظاماً فقد شرعيته الأخلاقية، وبالتالي مبرر وجوده، لكنه يتمكن من البقاء بمنطق القوّة الغاشمة، وفي المقابل نجد معارضة، أفقدتها ميليشيات الدواعش والقاعدة الكثير من رصيدها الأخلاقي، ولكن مطالبها الرئيسة والأصلية في الديمقراطية، والحريات العامة، وإسقاط النظام، لا زالت تحظى بتأييد شرائح اجتماعية واسعة في سوريا.

وفي سياق المعادلة نفسها نجد بلداً تحوّل الملايين من مواطنيه إلى لاجئين في الداخل والخارج، ويمكننا إحصاء مئات الآلاف من القتلى، والجرحى، ناهيك عن تدمير البنية التحتية، والمساكن، وتعطيل الخدمات. وهذه الأشياء كلها تصنع شرخاً عميقاً في النسيج الاجتماعي السوري، وفي علاقة المواطن بالنظام، وموقفه من فكرة الدولة، بعدما ذابت الأخيرة في النظام، وبعدما ذاب الأخير في الطائفة.

هذا الواقع غير مسبوق. ولا نعرف نتائجه في المدى المتوسط والبعيد، أما الأكيد فيتمثل في حقيقة أن أمل السلم الأهلي، وترميم حياة سوريا والسوريين، يبتعد الآن أكثر من أي وقت مضى.