رسم تعبيري.(أرشيف)
رسم تعبيري.(أرشيف)
الأربعاء 14 ديسمبر 2016 / 17:46

القوطي

حسب "هيغيل" إن نوم العقل ينتج عنه كائنات غريبة ومخيفة، وقد يؤدي سباته إلى ردود أفعال غير عقلانية تسمح بظلام دافئ داخل العقل نفسه

  لا أقصد بالقوطي هو ذلك الشخص الذي تنسبه اللهجة الدارجة إلى علبة معجون الطماطم أو الجُبن كناية عن البلادة أو التحجر، فكلمة القوط ترجع إلى قبائل شرق أوروبا التي عاشت خارج نطاق الحضارة رغم كونها في داخلها، ودخلت في حروب مع الإمبراطورية الرومانية وانتصرت عليها، ثم دخلت عاصمتها روما في عام 410 م وقلبتها رأساً على عقب، لتدشن بذلك بدء عصور الظلام في أوروبا بعدما انهارت دولة المؤسسات التي تمثل القانون ليُقضى معها على مظاهر الأدب والحضارة.

حسب "إدموند بيرك" لا تزال القوطية مرتبطة بشهوة الهيمنة والوحشية المتأصلة، ويرى فرويد أن الدوافع البشرية داخل النفس البشرية تميل إلى العنف والتدمير، وتظل هذه الدوافع تتسامى إلى أن تتحول إلى شكل مقبول اجتماعياً، فبدلاً من قطع الرقبة صرنا نقطع الزائدة الدودية، وبدلاً من حرق الكتب وتبييضها ورميها في نهر دجلة صرنا نرى من يحارب الثقافة والأدب والفنون عن طريق ترويج فتاوى دينية تحرّمها أو تقديم دعاوى سوفسطائية غير متزنة ترى أن الروايات لا تساهم في تقدم البشرية...

لعله قد فات هذه الفئة أن الأعمال السينمائية العظيمة التي يشاهدونها في الشاشة - الواردة لهم من الخارج - لم تكن إلا من وحي إلهام هذه الروايات، بل وصارت الأعمال الكلاسيكية الكبرى هي المعيار الذي يُحكم به على أعمال أخرى من نفس النوع، فيحلو للبعض مثلاً جعل رواية (الأحوال الغامضة في مزرعة ستايلز) ل"أغاثا كريستي" هي معيار الرواية البوليسية، و(451 فهرنهايت) ل"راي برادبري" هي معيار رواية الخيال العلمي... فالروايات عالم من الإلهام لبني البشر لا يعرف قيمته إلا من خرج من قمقم نفسه ليرى رحابة الثقافة من زاوية إنسانيته وليس من زاوية معتقده، ولك أن تتخيل حجم الفجوة الفكرية بين العرب والغرب في أوائل القرن العشرين حين تعلم أن رواية مثل حرب الكواكب ل "ويلز" كُتبت في عام 1895 بينما كان العالم الإسلامي في تلك الفترة يترقب خروج المُخلص ويعتقد أن نيازك السماء هي شياطين مرجومة...

تكمن جاذبية الأدب القوطي في كونه يوفر هروباً علاجياً من ضوابط النظام والعقل، فحسب "هيغيل" إن نوم العقل ينتج عنه كائنات غريبة ومخيفة، وقد يؤدي سباته إلى ردود أفعال غير عقلانية تسمح بظلام دافئ داخل العقل نفسه...

منذ الترجمة السبعينية للكتاب المقدس إلى اللغة اليونانية والذي اشترك في ترجمته سبعون مترجماً، تخوفت الكنيسة من فتح باب ترجمة الإنجيل إلى اللغات المحلية في أوروبا خوفاً من اطلاع عوام الناس عليه، مما يستلزم فتح باب المساءلة العقلانية لنصوصه، فعلاً كانت مخاوف الكنيسة في محلها، فبمجرد ما قام "مارتن لوثر" بترجمة الكتاب المقدس إلى لغته الألمانية بدأ عهد جديد من النهضة في أوروبا، وكأنه يحاكي النهضة التي أصابت الحضارة الإسلامية في عهد الخليفة العباسي المأمون، الذي ترجم تراث اليونان إلى العربية مما فتح على المسلمين باب التفكير الفلسفي والتقني، وانبثق تيار عقلاني في الإسلام يؤمن بقداسة العقل والمعرفة بعيداً عن ضوضاء الحشوية الذين امتلأت بطونهم نصوصاً جامدة لم يستطيعوا استثمارها في صالح الإنسانية والتسامح...

ترى البعض اليوم يحارب ترجمة أمهات العلم بدعوى كونها لا تمت لواقعنا وتاريخنا بصلة، وهذه نظرة ضيقة تهمل كون الحضارة اليوم بنيت - وما زالت تُبنى - على أساس الأعمال الفلسفية والعلمية للعصور السابقة، فلا توجد حضارة ولدت من العدم إلا عند قُراء القشور الذين ظنوا أن حضارة مثل حضارة الأندلس ولدت فجأة بدخول العرب إليها وليس من رحم الحضارات التي سبقتها كالحضارة الإغريقية، هذه الحضارة عرف فضلها وحقها ابن رشد الذي أدرك بذكائه أن تَكّون الحضارات في العالم هو تكون تراكمي، فدفع ثمن منهجه غالياً تمثل في إحراق كتبه ونفيه من بلده، وتم التعتيم على مساهماته الفكرية في العالم الإسلامي إلى أن جاء مفكرو النهضة الأوروبية وأعادوا استكشافه بعدما أهمله بنو جلدته الذين كانوا منهمكين في تسويق فتاوى الظلام التي استمرت في توليد الظلاميين والقوطيين إلى يومنا هذا...