مرت الطنطاش، قاتل السفير الروسي في تركيا.(أرشيف)
مرت الطنطاش، قاتل السفير الروسي في تركيا.(أرشيف)
الخميس 22 ديسمبر 2016 / 18:25

الفراشة التي قتلت السفير

كثيرٌ ممن أنكر حادثة الاغتيال باستخدام مصطلحات فقهية مثل "أمان ولي الأمر" و"المُستأمنين" و"المعاهدين" و"أهل الذمة" هو نفسه من يقدم شروحاً مطولة لأبواب الجهاد والخلافة والجواري للشباب الذين يُقارب عمرهم عُمر القاتل التركي

ليس حديثي في هذا المقال عن الظلم الواقع على أهل سوريا بسبب تجاذبات عصابات النظام وجماعات الجهاد، فالذي يعانيه الشعب السوري بعيد كل البُعد عن أي شيء يتصل بالآدمية...

انصدم متابعو المعارض الفنية وهم يشاهدون مقتل السفير الروسي "أندريه كارلوف" - في معرض فني - انتقاماً من معركة مدينة حلب، وجرياً على العادة في هذه المنطقة، قام أهالي العاطفة الجياشة بإطلاق صيحات التكبير والتهليل والتمجيد لهذا الاغتيال المخالف لطريقة النبي محمد عليه السلام والذي امتنع عن الغدر بألد أعدائه طوال سيرته الحربية، ثم توالت اللوحات البطولية بين أشعار وإهداءات، والتي كان أحدها تعهد أحد المارّة بأداء مناسك العمرة عن القاتل "مولود ألطنطاش"...

كتب "إدوارد لورينز" في عام ١٩٧٢ العبارة التالية:
(هل تتسبب خفقة جناح فراشة في البرازيل في إحداث إعصار في تكساس؟)
صار هذا المثل إشارة مجازية فضفاضة للفظائع التي يمكن أن تُسببها أحداث جِسام عن طريق أحداث بسيطة جداً في ظاهرها، صحيح أن رفرقة جناح فراشة واحدة لا تستطيع تكوين إعصار مُدمر، إلا أن هناك ملايين أخرى من الفراشات التي قد لا تظهر متصلة بالإعصار، إلا أنها مرتبطة بنظام حساس يلتقط الأحداث الضئيلة ليقوم بالفوضى غير المتوقعة... وقد تمتد هذه الفوضى لتشمل الاضطرابات في مفاصل العلوم الطبيعية كديناميكية الموائع، ودوران الأمراض في علم الأوبئة، وخفقان القلب في علم وظائف الأعضاء، وحركة النجوم في علم الفلك...ولقد حاول علماء الطقس وضع معادلات رياضية تتنبأ بالحركات المتغيرة في الغلاف الجوي، إلا أنهم لم يتمكنوا من خلق خطوط مستقيمة على الرسوم البيانية لا تتباين ولا تختلف في كل مرة...

تجعلنا هذه الفوضى الخلاقة نعتقد أن هذا العالم غير قابل للتنبؤ، فمن كان يدور في خُلده أن حارساً شخصياً لم يتجاوز عمره ال٢٢ - كان يُفترض به أن يتلقى الرصاصات الموجهة للسفير - يكون هو من يطلق هذا الرصاصات؟ لماذا قام هذا الشاب بالثأر لحلب مع أن الصورة الإنسانية الأليمة لهذه المدينة المنكوبة قد شاهدها ملايين المسلمين الذين لم يفكروا بضرب الروس في داخل بلادهم؟ وما الذي يمنع قيام مثل هذه العملية في مكان آخر مرة أخرى؟ إنها رفرفة الفراشات التي مازالت تعمل بكامل طاقتها التحريضية...

كثيرٌ ممن أنكر حادثة الاغتيال باستخدام مصطلحات فقهية مثل "أمان ولي الأمر" و"المُستأمنين" و"المعاهدين" و"أهل الذمة" هو نفسه من يقدم شروحاً مطولة لأبواب الجهاد والخلافة والجواري للشباب الذين يُقارب عمرهم عُمر القاتل التركي، فيحدثهم أن القتال الهجومي - الذي يُسمى بجهاد الطلب - باقٍ إلى قيام الساعة حتى يدخل الناس للإسلام أو أن يدفعوا الجزية ويذعنوا لسلطان الخليفة، لكن ليحمي نفسه من سوط القانون، يقوم بالاستدراك أن هذا الجهاد متوقف على رضا ولي الأمر، وولي الأمر مفهوم فضفاض يشمل حاكم البلد الفعلي، ويشمل خليفة الزمان أبوبكر البغدادي، الذي لو تمكن من رقاب هذه الفئة لاعتبروه حاكماً شرعياً يجب تحمل سياطه على منطقة الظهر مهما كلف الأمر مادام مقيماً لشريعة الدم التي لا تختلف كثيراً عن شريعتهم إلا في المواقيت والمصلحة..

هذه الفئة التي تنفخ في الرماد ليزيد اشتعالاً هي من تنفخ في أبواق التطرف ليزيد تمدداً، خذ مثلاً الكارثة الإنسانية التي أصابت مسلمي "الروهينجا" في بورما، قامت هذه الفئة بتجييش الناس ضد البوذيين حتى تتحول دفة الصراع إلى مواجهة بين الإسلام والبوذية مع كونه صراعاً إثنياً محدوداً في بقعة جغرافية واحدة...

هذه الفئة لا يهمها الإنسان الذي تُقدر قيمته عندهم بكمية العقائد المحشوة في دماغه، فصراع البلقان الذي اختلطت فيه النعرة الدينية بالعرقية وراح ضحيته بضعة آلاف من الطرفين كان أكثر أهمية بالنسبة إليهم من إبادة بشرية في رواندا - في نفس وقت حرب البلقان - بين قبيلتي الهوتو والتوتسي والتي راح ضحيتها 800 ألف إنسان واغتصبت فيه مئات الألوف من النساء في أيام معدودة... هذه الفئة غضت الطرف عن مآسي رواندا التي لم تكلفهم محاضرة واحدة في شريط كاسيت - كما كانت موضة ذلك الزمن - تشجب المجزرة التي حصلت أو تدعو إلى مساعدتهم أو حتى الدعاء لهم... بينما ستجد آلاف المواد الصوتية والمرئية والورقية التي تتحدث عن نكبة المسلمين في البوسنة والتي زادت نكبتها عندما دخلها من تمايل لخطاباتهم...

إذا كُنت مازلت تسمع عن أحكام الرقيق والعبيد في دروسهم فإنك قد لا تقتنع بما يقولون الآن بسبب تمسكك ببعض مبادئ الإنسانية التي تعلمتها، لكنك قد تكون مهيئاً لتعاطي المسألة إذا حكمك البغدادي لأن تلك الأفكار كانت تُبذر في عقلك الباطن لتنمو على مهل وتكون جاهزة للاستخدام عند الحاجة..

في السابق كنا لا نسمع أهازيجهم إلا في تسجيلات محصورة وغير متاحة للجميع، أما الآن فالتشدد صار قناة مُتكاملة تثير مستقبلات الضحك عندنا ولكنها تثير مستقبلات التطرف عند آخرين لا نعلمهم، فنحن نضحك عندما نرى فيديو شيخ يُفتي بتحريم التصوير لاسيما إذا كانت الصورة سيلفي مع القطط والكلاب، أو من يثبت عدم دوران الأرض باستخدام كوب من الماء.. ونستنكر على من يدعو بالشلل على من سمح لبناته بدراسة الطب والصيدلة أو من جعل ترك صلاة الفجر أعظم من زنا المحارم .. لكن ماذا عن الخلايا النائمة عند الآخرين؟

الغفلة هي التي جعلتنا نسمح بمرور رفرفرات الغربان والخفافيش لتخلق لنا صدمات لم نكن قادرين على التنبؤ بها..