صورة تعبيرية.(أرشيف)
صورة تعبيرية.(أرشيف)
الخميس 29 ديسمبر 2016 / 19:27

القانون فوق الجميع و.. التراث فوق القانون

المنا يتغير، وأن أوضاعنا تتبدّل، وأن مفاهمينا تتطوّر، لكننا محكومون بقوانين تنظم حياتنا من الألف إلى الياء، ومن المهد إلى اللحد، وهذه القوانين منبعها الشريعة بشكل أو بآخر

لكل شعب خطوط عريضة، ولا بد أن يشتمل دستوره على تلك الخطوط، وإلا خسر التوافق عليه ولم يحظَ بشرعيته كقانون أعلى. وتنص الدساتير العربية (التي تسنى لي الاطلاع عليها) على أن للدولة ديناً هو الإسلام، باعتبار أن الدين، أحد أهم عناصر هوية الشعوب العربية، ولعلّ الدستورين اللبناني والسوداني الاستثناء بين الدساتير العربية.

فالدستور اللبناني لا ينص على دين للدولة، ربما بسبب التنوّع الديني والمذهبي الشديد هناك، وعدم وجود أغلبية دينية ومذهبية بين اللبنانيين. أما دستور السودان الانتقالي، والذي جاء بعد اتفاقية السلام الشامل بين شماله وجنوبه، فلم ينص على دين للدولة، لكنه نص على أن "تكون الشريعة الإسلامية والإجماع مصدراً للتشريعات التي تسن على المستوى القومي وتطبق على ولايات شمال السودان".

وإذا كان الدستور هو القانون الأعلى، وكان ينص على أن للدولة ديناً، فمن البديهي أن يكون ذلك الدين مصدر القوانين فيها، فلا يجوز أن يصدر قانون يخالف نصاً من نصوصه.. وهكذا تكون جميع القوانين مستمدة من الدين، أو لا تتعارض معه، وإلا كانت غير دستورية، وتقضي المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية القانون.

ومع الصبغة الدينية للقوانين العربية، يبقى الفارق بينها في محورية الدين في التشريع حسبما ينص عليه كل دستور، ومن هذه الحيثية يمكن تقسيم الدساتير العربية إلى ثلاثة أنواع: (1) دساتير تنص على أن الإسلام دين الدولة، وأن الشريعة المصدر الوحيد للتشريع. (2) دساتير تنص على أن الإسلام دين الدولة، وأن الشريعة المصدر الرئيسي للتشريع. (3) دساتير تنص على أن الإسلام دين الدولة.

وهناك ثلاثة دساتير عربية من النوع الأول، فالنظام الأساسي للحكم في السعودية، وهو نظيرٌ للدستور، ينص على أن المملكة "دينها الإسلام، ودستورها كتاب الله تعالى وسنة رسوله. يستمد الحكم في المملكة العربية السعودية سلطته من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله، وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة"، والدستور اليمني ينص على أن "الشريعة الإسلامية مصدر جميع التشريعات"، والدستور الليبي، والذي لا يزال مسودّة، ينص على أن "الشريعة الإسلامية مصدر التشريع وفق المذاهب والاجتهادات المعتبرة شرعاً".

وهذه النصوص الدستورية رغم اختلاف عباراتها ذات مضمون واحد، هو أن الشريعة المصدر الوحيد للقوانين، بمعنى أنه إذا كانت الشريعة قد قالت كلمتها في الموضوعات التي يريد واضع القانون تنظيمها، فإن حكم الشريعة يدون على شكل مواد قانونية ويصدر القانون، فإذا لم تكن موضوعات القانون مما تناولتها الشريعة، يعود واضع القانون إلى مبادئ الشريعة ويصوغ مواده على هديها وبما لا يتعارض معها.
النوع الثاني من الدساتير تنص على أن الإسلام دين الدولة، وأن الشريعة مصدر رئيسي للتشريع فيها، كالدستور الإماراتي الذي ينص على أن "الإسلام هو الدين الرسمي للاتحاد، والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع فيه"، والكويتي والبحريني اللذين ينصان على أن "دين الدولة الإسلام، والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع"، والعماني الذي ينص على أن "دين الدولة الإسلام، والشريعة الإسلامية هي أساس التشريع".

أما الدستور القطري فينص على أن قطر دولة مستقلة "دينها الإسلام، والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي لتشريعاتها، ونظامها ديمقراطي"، والمصري ينص على أن "الإسلام دين الدولة، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع"، والدستور السوري ينص على أن "دين رئيس الجمهورية الإسلام. الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع".

وهذه النصوص الدستورية تؤكد على أن الشريعة المصدر الرئيسي للقوانين، وتؤكد ضمناً على أنه ثمة مصادر أخرى للقوانين، كالعُرف السائد، أو مبادئ القانون الطبيعي، أو مبادئ العدالة، أو الاتفاقيات الدولية، باعتبار أن النص أشار إلى أن الشريعة مصدر رئيسي أو أساسي للتشريع، وليس المصدر الوحيد.

ولا يعني هذا أنه يجوز إصدار قوانين متعارضة مع الشريعة استناداً إلى تلك النصوص الدستورية، فما دام الدستور يؤكد أن الشريعة هي المصدر الرئيسي للقوانين، فلا يجوز من ثم أن يستمد من غيرها أي قانون، إلا في حال لم يوجد نص صريح وقاطع في الشريعة الإسلامية، وهو ما نص عليه الدستور العراقي صراحة، فاعتبر أن "الإسلام دين الدولة الرسمي، وهو مصدرٌ أساس للتشريع"، وأضاف هذه العبارة: "لا يجوز سن قانونٍ يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام".

وثمة دساتير عربية اكتفت بالنص على دين الدولة، وهي من النوع الثالث، كدساتير الأردن والمغرب والجزائر التي نصت على أن "الإسلام دين الدولة"، والدستور الموريتاني الذي نص على أن "الإسلام دين الشعب والدولة"، والتونسي الذي نص على أن "تونس دولة مستقلة، حرة، ذات سيادة، الإسلام دينها".

وهذه النصوص تترك الباب مفتوحاً أمام المشرع ليصدر قوانين من مصادر مختلفة، ولا تقيده بحبال الشريعة، ومع هذا، تظل الشريعة تلعب دوراً ما في قوانين تلك الدول، ما دامت دساتيرها تنص على أن للدولة ديناً هو الإسلام، لكن إن صدر قانون يصطدم بحكم شرعي، لا يمكن الطعن في عدم دستوريته.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نحن نرى أن عالمنا يتغير، وأن أوضاعنا تتبدّل، وأن مفاهمينا تتطوّر، لكننا محكومون بقوانين تنظم حياتنا من الألف إلى الياء، ومن المهد إلى اللحد، وهذه القوانين منبعها الشريعة بشكل أو بآخر، وبدرجة أو بأخرى.. فماذا بوسعنا فعله لتكون قوانيننا متوائمة مع أوضاعنا؟!

والجواب على هذا التساؤل لا يكتمل إلا بعد وضع مصطلح "الشريعة الإسلامية" على طاولة البحث، فالشريعة الإسلامية التي هي مصدر وحيد أو رئيس لقوانين الدول العربية، ليست منزلة من السماء بكل تلك التفاصيل التي لم تترك شاردة أو واردة، وإنما تستمد أحكامها من نحو عشرة مصادرٍ، أولها الكتاب، ثم السنة، ثم الإجماع، ثم القياس، ثم بقية المصادر، وليس ثمة مصدر من هذه المصادر لم يدخل فيه العنصر البشري غير المعصوم، فحتى المصدر الوحيد المنزل حرفياً من السماء، دخل البشر في بيان معاني عباراته، ومعاني إشاراته.

ومن حيثية أن العنصر البشري ساهم في إيصال أحكام الشريعة إلينا، سواء بمن فسّروا القرآن وأوّلوه، وبمن نقلوا الحديث ودوّنوه، وبمن كتبوا التاريخ وسجّلوه، وبمن قاسوا واستنبطوا واستدلوا من القرآن والحديث والتاريخ، يفترض ألا تكون هناك إشكالية في حق المتأخرين من أهل الاختصاص في فحص كل ذلك، وتمحيصه، وإعادة قراءته، في ظل فهم ومنهج المتقدمين، وعلى ضوء المعارف الجديدة والمناهج الحديثة.
إعادة قراءة التراث الديني إذن ليست من قبيل الفضول المعرفي أو الترف الفكري كما يعتقد الراتعون في الكسل، وليست وسيلة لإحداث أمرٍ أو تبديل حكمٍ كما يعتقد أهل كهف التعصّب، وإنما هي عملية لا بد منها لإصلاح حاضرنا، وتهيئة أرضية النجاح لمن سيأتي بعدنا، ما دامت حياتنا تسير وفق قوانين تُستقى من ذلك التراث الديني.

والأمثلة على عدم قابلية قوانيننا ــ بسبب ارتباطها بالتراث الديني ــ لأن تحظى بالقبول في عالم اليوم كثيرة، منها الاتجاه العالمي الحديث بشأن اعتبار بعض الحريات من صميم حقوق الإنسان، بينما تتحفظ المجتمعات الإسلامية على تلك الحريات بسبب قراءات معينة للتراث، وهذا التحفظ ليس مجرد موقف شعوري، بل إنه يجد مفاعيله في القوانين.
وهكذا الأمر مع بعض القوانين التي يرى بعضهم أنها غير إنسانية، كتشريع عقوبة الإعدام، أو غير حضارية، كالتضييق على حرية الاعتقاد، أو تمثل عائقاً أساسياً نحو التقدم، كالتمييز بين الجنسين، أو التمييز بين المواطنين بسبب اعتقاداتهم، فكل هذه القوانين لها جذور في التراث. كما أن بعض القوانين التي تحّد من ظواهر حديثة أو قديمة تبدلت صورها، قد تبدو في نظر الناس غريبة على تراثنا الديني، ما يضعف الثقة فيها أو يحول دون تفعيلها، كالسائل الذي أُمرنا بألا ننهره، بينما القانون يطلب منا الإبلاغ عنه باعتباره متسوّلاً.

وقد حاول بعضهم رفع هذا الخلاف بالقول إن المتسوّل يدعي الفقر، وادعاء الفقر منهي عنه شرعاً، لكن هذه المحاولة للأسف جانبها التوفيق، إذ قد يكون بعض المتسوّلين فقراء فعلاً.. فهل نبلغ عنهم كما يقول القانون، أم لا نفعل ذلك، باعتبار أننا مأمورون بعدم نهر السائل، ومن باب أولى ألا نبلغ عنه!

وقد وجدت في أحد الكتب رسالة قديمة من أحد مشايخ الدين موجهة لحاكم بلده الذي كان قد أصدر قانوناً بمنع التسوّل، وكان مما ورد فيها أنه مذ سمع بالقانون وهو على خوف ووجل، وأنه كان يأمل لو رافق أمر منع التسوّل اللطف والإحسان مع المتسوّلين، وردّهم إلى بلادهم في غير عنف ولا حبس، ذلك أن سجنهم وتغريمهم بغير ذنب لا يجوز شرعاً.

ولعلّ مسألة تأديب الزوج لزوجته تعطي صورة أوضح لتأثير التراث الديني على القوانين المعمول بها، فواحدة من المسلمات لدى الفقهاء (حراس الشريعة) قديماً وحديثاً، ومن جميع المذاهب، هو حق الزوج تأديب زوجته بالضرب، وإن اختلفوا في بعض تفاصيل ذلك التأديب ودرجة ذلك الضرب، وقد استند هؤلاء في هذه المسألة على قوله تعالى: "واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن".
وحين بدأت الدول العربية تسن القوانين التي تعاقب على الجرائم، جرّمت بطبيعة الحال الاعتداء بالضرب الذي يحصل من شخص على آخر، لكنهم توقفوا عن تجريم ضرب الرجل زوجته، باعتبار أن الشريعة تجيز ذلك، وباعتبار ثانٍ أن القانون لا بد أن يراعي أحكام الشريعة، وباعتبار ثالث أن الدستور ينص على ذلك، فاستثنت القوانين العربية، (التي تسنى لكاتب هذه السطور الاطلاع عليها)، ضرب الزوج لزوجته بقصد التأديب، تماشياً مع الشريعة الإسلامية.

واضع القانون هنا لم يستثنِ الزوج من العقاب لأنه هو نفسه رجل، أو لأن اللجنة التي صاغت القانون كانوا مجموعة من الذكور، أو لأن ثقافة المجتمع ذكورية وأبوية، وإنما لأن الدستور ينص على أن الشريعة الإسلامية مصدر التشريع، والشريعة هي التي تجوّز ذلك الضرب، والزوجة على الأرض قد تتلقى الضرب من زوجها ثم لا تأخذ حقها منه، لأنه ليس لها حق أساساً بمقتضى الشريعة الإسلامية.
ومن هذا المثال، وثمة أمثلة أخرى كثيرة مشابهة، يتضح كيف تجري الأمور، وكيف تؤثر الأوضاع بعضها ببعض، وكيف أن تفسير كلمة في آية قرآنية في اتجاه معين، يؤثر في نص قانوني، يؤدي بدوره إلى إباحة ضرب إنسان.

الحلول المتوافرة لهذه التحديات الصعبة ليست كثيرة، وأعتقد أنه ليس ثمة إلا حلين اثنين، الأول هو تعديل تلك الدساتير وعدم تحديد دين للدولة ولا النص على أن الشريعة مصدر للتشريع، وهو ما سيعني ضمن ما سيعني تحويل الأنظمة السياسية الموجودة إلى أنظمة علمانية تضع قوانين بشرية، سواء اتفقت مع الشريعة أو لم تتفق، ولا أعتقد أن هذا حلّ مطروح حالياً، خصوصاً أن شرعية الحكم أساساً ترتبط في أذهان غالبية المسلمين بالتزام الدولة بالشريعة الإسلامية قبل أي شيء آخر.

أما الحل الثاني فيتمثل في إعادة قراءة التراث الديني ما دام يقول كلمته في قوانيننا التي تسيّر حياتنا، مع الحرص على أن تكون إعادة القراءة على ضوء الحاضر وفي ظلّ الماضي، لئلا نبقى متخلفين عن ركب الأمم، وفي الوقت نفسه لئلا نشطح ونذهب بعيداً.