تعبيرية(أرشيف)
تعبيرية(أرشيف)
السبت 31 ديسمبر 2016 / 19:46

السعادة في زمن الرمادة

كما كان متوقعاً، لم يكن 2016 عاماً بهيجاً في تاريخنا، وكما جرت العادة، بقي العرب بعيدين عن ركب العلوم، متكئين على إنجازات الحضارة العباسية والأندلسية، مبشرين لخلافة على منهاج الدم... تزاحمت في هذا العام الأحداث وتضاربت فيه التوقعات، وكان نصيب عالمنا من التعاسة نصيب الأسد، وخلافاً للتوقعات لم تكن إسرائيل هي سبب كآبتنا، بل كانت أرحم بنا من الجماعات الإسلامية والأنظمة الطائفية التي تطاحنت في بلاد العراق والشام وريفها ومحيطها بتوجيهات من الأيدولوجيات الخارقة للأجساد... وفي ظل شيوع الفقر وتغلب الجهل وانحسار التنوير وانعدام الأمن، صار الحديث عن السعادة يبدو كترف زائد عن الحاجة رغم كون عدم وجوده هو محصلة النكبات والنكسات المتتالية والمتوازية..

يكذب من يعتقد أنه يستطيع تقديم وصفات للسعادة كما يزعم مدربو السعادة في أحاديثهم، فالقراءة عن أسباب السعادة لا تجعل منك سعيداً...لكن دعونا نكسر الروتين الممتلئ أشلاء وجراحاً، ولنتحدث عن عوامل السعادة من منظور علماء النفس الذين حللوا بعض مقوماتها وعلى رأسهم الدكتور "مارتن سيليجمان" في كتابه "السعادة الحقيقية".

يظن البعض أن السعادة مرتبطة بتضاعف أرصدتهم البنكية، لكن حين النظر إلى الخمسين سنة الماضية، فإننا سنرى أن القدرة الشرائية للناس في أمريكا واليابان وفرنسا قد تضاعفت، ومع ذلك لم يتغير مستوى الرضا عن الحياة عندهم، أما الفقراء فقراً مدقعاً فإن مستوى سعادتهم يزداد عند حصولهم على دخل معين ثم لا يُبارح هذا المستوى مكانه مع زيادة ثروتهم، ولو نظرنا إلى مجتمعنا حين كانت موارد العائلة المتوسطة فيه محدودة فإن الناس كانوا يبدون أكثر سعادة وقناعة بما عندهم..

أما بالنسبة لتأثير الزواج على السعادة، فقد أجريت دراسة كبيرة على المتزوجين في أمريكا، ووُجد أن نسبة 40%‏ منهم سعداء جداً في مقابل 24%‏ من المطلقين والمنفصلين والأرامل الذين صنفوا أنفسهم كسعداء أيضاً، تقول الدراسات إن الزواج يزيد مستويات السعادة بغض النظر عن مستوى الدخل أو السن أو الجنس، ويعيش كل السعداء تقريباً في علاقة رومانسية، وكثير ما يدخل أحدنا في ظلمة الاكتئاب بمجرد لخسارته لطرف يمارس معه الحب... لقد وجدت الدراسات أن الشخصيات الاجتماعية أكثر سعادة من الشخصية المنغلقة على نفسها التي تقضي وقتاً طويلاً بمفردها..

أما في موضوع علاقة الدين بالسعادة والذي أثار جدلاً واسعاً بين المؤمنين وغيرهم، فقد وجدت الدراسات أن المتدينين عموماً -وبغض النظر عن عقلانية إيمانهم- أكثر سعادة ورضا عن الحياة من غير المتدينين، وتقل عندهم معدلات الإصابة بالاكتئاب، ويبدون مرونة أكبر في التعامل مع المصائب والمآسي..

قد نظن أن المرضى بشتى أنواع معاناتهم يعيشون حياة تعيسة، إلا أنه وجد أن المرض لا يؤثر على السعادة بالدرجة التي نتخيلها، فلا يقلل من مشاعر الفرد الإيجابية إلا الأمراض القاسية.

هناك من يربط بين المناخ والسعادة، فيعتقد أن من يقطنون المناطق الساحلية هم أكثر سعادة من الذين يعيشون في الصحارى والغابات والمناطق المتجمدة، إلا أن الحقيقة تقول إن المناخ لا يؤثر على مستويات السعادة، فالناس تتأقلم مع الجو بسرعة كبيرة.. كذلك ليس لمستوى الذكاء أو التعليم أو الأصل القبلي أثر ملحوظ على مستوى الشعور بالسعادة..

تُوضح الأبحاث أن هذه العوامل مجتمعة لا تشكل سوى نسبة 8-15 %‏ من مستوى السعادة، فهي ترتبط بالأشياء الأساسية التي تميز هوية الشخص وظروف حياته، لكن ما يحقق السعادة الحقيقية هو التطوير المتدرج للشخصية والتي تتضمن الحكمة والمعرفة والشجاعة والحب والإنسانية والعدل والاتزان... هناك مواهب نستطيع اكتسابها وتنميتها مثل الإرادة والعزيمة، ويلهمنا في ذلك أشخاص تغلبوا على عقبات كبرى في حياتهم أكثر من أشخاص يفعلون ما يفعلونه لأنه يمتلكون شيئاً ورثوه بدون تعب ولا جهد مُسبق..

السؤال الأكثر التصاقاً بواقعنا العربي الممزق...هل يُحدد ماضينا سعادتنا في المستقبل؟ كانت إجابة علم النفس بقيادة "فرويد" نعم، لكن النتائج الفعلية للبحوث صارت تعطي إجابات مختلفة، فالطفل الذي تتوفى والدته تزداد عنده معدلات الإصابة بالاكتئاب لاحقاً، لكن هذه الاحتمالات محدودة ولا تحدث إلا إذا كان الطفل أنثى، وطلاق الأبوين لا يؤثر إلا تأثيراً محدوداً على طفولة أبنائهم أو مراهقتهم، وهذا الأثر يضعف في المراحل التالية في حياتهم، فلا يمكن اعتبار الاكتئاب والقلق والإدمان والزيجات الفاشلة نتيجة لما حدث في فترة الطفولة، فالأكثر أهمية هو تطوير الفرد لمواضع قوته الذاتية..

ليس المهم أن تكون سعيداً في كل أوقاتك بل المهم هو قرار تطوير ما بداخلك لتصبح سعيداً، فطرق السعادة غير غامضة وعلينا استكشافها بأنفسنا..
 أتمنى أن نجد في 2017 السعادة المفقودة في عالمنا قبل أن يأكلنا طاعون البؤس المتفشي في جوارنا.

كل عام وأنتم بخير.