رسم تعبيري.(أرشيف)
رسم تعبيري.(أرشيف)
الخميس 5 يناير 2017 / 19:24

التنمر الإلكتروني

يتخذ المتنمرون الجدد من المدونات والهاشتاقات وسائل لتوجيه حملات تشويه منظمة ضد الهدف المراد إسقاطه لأسباب سياسية أو دينية...

نصحني أحد الأصدقاء بمشاهدة فيلم "A girl like her" الذي يتناول ظاهرة "التنمر" في المدارس، التنمر يعني تحول الطفل إلى نمر أمام من هم أضعف منه... والمميز في الطفل المُتنمر هو نجاحه في فرض سلطته باستخدام سلاطة اللسان أو ضخامة الجمجمة أو تراكم الدهون الشحمية في أطرافه مما يدفع أصدقاءه المُطبلين إلى اعتباره عنترة بن شداد The junior...

هذه الظاهرة المُراهقاتية أخذت حقها من البحث، ووضع المختصون حلولاً نفسية لمكافحتها، لكن مع اتساع دائرة العالم الافتراضي على حساب العالم الحقيقي، طفت على السطح ظاهرة التنمر الإلكتروني والتي يسمونها بـ cyberbullying، وهي تنمر ما بعد مرحلة البلوغ لكن بطريقة أكثر حرفية، حيث يتخذ المتنمرون الجدد من المدونات والهاشتاقات وسائل لتوجيه حملات تشويه منظمة ضد الهدف المراد إسقاطه لأسباب سياسية أو دينية.

من حيث المبدأ، لا توجد مشكلة في توجيه نقد موضوعي للأفكار المتداولة في وسائل التواصل الاجتماعي، لكن المشكلة إن المتنمرين عندما يعجزون عن نقد فكرة ما بسبب ضيق أفقهم أو تحريض شيوخ التنمر لهم، فإنهم يلجؤون إلى شخصنة الموضوع، ويكون الهدف هو الكيد والوقيعة بالطرف الآخر.. وبما أننا محاطون بمجموعة من الهالات الدينية المزيفة، فإن الموضوع لا يمكن أن يتحول إلى عمل منظم إلا بتطعيمه بعنصري الدين والوطنية، عندئذٍ يظهر من يسبح ضد تيار التنمر بصورة المرتد الذي لا يغار على دينه، والمنتكس الذي لا يدافع على وطنه.

الأكثر غرابة، أن حياة المتنمرين الخاصة لا تمت بصلة إلى شخصياتهم الوعظية في الفضاء الإلكتروني، وكل من يعرفهم عن قرب يدرك ذلك جيداً، وأفضل وصف لهم هو وصف الحديث النبوي لمن يأمر الناس بخلاف ما يفعل - والذي علق بذاكرتي من حصة التربية الإسلامية - بأنهم كالحمير التي تدور حول رحاها.. عندما تقول لهم هلا طبقتم شيئاً مما تعظون به الناس على أنفسكم وتوقفتم عن التنمر على عباد الله؟ فإن ردهم التلقائي هو أنهم بشر يصيبون ويخطئون ويبتهلون إلى الله لكي يستر عيوبهم.. يرجون رؤية الفضيلة في المجتمع وهم يفتقدونها في أنفسهم.

المتنمر الديني هو شخص يبحث عن الهيمنة في عالم آخر لأنه لم يجد ضالته في العالم الحقيقي، يرسل أدعية ذم الغيبة والنميمة في البرودكاست ثم يمارس ما نهى عنه على كل من استحل فضيحته... إنه يبحث عن أي طريقة تمكنه من كشط عيوبه الأخلاقية اللامتناهية عن طريق إسقاطها على من حوله.

أحد هؤلاء المتنمرين في تويتر - ممن امتهن ترديد "ديباجات" الصواعق الحارقة على الفرق المارقة - كان يظنه الناس أبو دجانة أو الجارود بن المعلى من قوة زمجراته في مواقع التواصل الاجتماعي، لكن عندما شوهد على أرض الواقع لم يكن صوته -المكسو بأنين قطة المنزل- يخرج من فمه الذي يحيط به لحية خفيفة بتسريحة "فراري" الشهيرة... أما الآخر فيلاحق أبطال الألعاب الإلكترونية من مهرجان لآخر من أجل التقاط الصور التذكارية، وآخر يشاهد النسخة غير المُقطعة من مسلسل "قيم أوف ثرونز"، وآخر يعتبر نفسه عميد الدوري الإسباني في المنطقة... ثم عندما تهب رياح التنمر الديني في العوالم الافتراضية فإنهم يتحولون إلى أساتذة في تحريم حلق اللحية واستماع الموسيقى وحضور المعارض الفنية ومشاهدة عورات اللاعبين، ويتحولون إلى مُحللين عقائديين محترفين في شؤون الفرق الضالة والمنحرفة يعلكون معها عبارات صفراوية مثل "تلك العصا من هذه العصية، وهل تلد الحية إلا حوية".

يحق للمجتمع أن يسأل معاشر المتنمرين (من أين لك هذا؟)، من هو الذي يُرضعهم التشدد؟ لماذا لا يلتزمون بفتاوى المراكز الرسمية أو يحترمونها على أقل تقدير؟ لماذا ينصحون الناس بالحلول الرجعية الواردة من الخارج في الوقت الذي يتفننون فيه في ممارسة الرفاهية في الداخل؟ والأهم من ذلك كله لماذا يمارسون الاحتساب الالكتروني ضد أبناء وطنهم ودينهم؟