غلاف كتاب الحاشية.(أرشيف)
غلاف كتاب الحاشية.(أرشيف)
الأحد 15 يناير 2017 / 20:22

رواية تفضح الصعود الطبقي العشوائي في مصر

الرواية التي تصل إلى ثلاثمائة صفحة من القطع المتوسط تأخذنا أبعد وأوسع من هذا المعنى المحدد في القواميس والمعاجم والممارسات السياسية، وتفتح السرد على واقع يتوحش من فرط الفساد والبؤس

أعطى الكاتب المصري سلطان الحجار روايته الصادرة عن دار سما بالقاهرة عنوان "الحاشية"، فأحال الأفهام سريعاً إلى تلك الدائرة الضيقة جداً التي تتحلق حول أهل السلطة والصولجان، خاصة أنه أتبع العنوان بمفتتح يقول: "لكل زمان حاشية تحمل المباخر حول كرسي العرش، تسبح بأمجاد السلطان، وتتلو آيات الطاعة، حمايتها للحاكم من مقومات بقائها، وولاؤها للسلطة عنوان نفاقها، وظلمها للشعب ضمان استمراريتها".

لكن مطالعة الرواية التي تصل إلى ثلاثمائة صفحة من القطع المتوسط تأخذنا أبعد وأوسع من هذا المعنى المحدد في القواميس والمعاجم والممارسات السياسية، وتفتح السرد على واقع يتوحش من فرط الفساد والبؤس، ويهجم بكل حمولاته الثقيلة على الرواية فيكاد ينهي مساحات التخييل، اللهم إلا ما أضافه الكاتب إلى بعض الشخصيات، التي لا نعدم وجودها بيننا، تملأ الدنيا ثرثرة وصراعاً ضارياً على المناصب والأموال، أو تلك التي اخترعها ليمنحها بعض الوظائف في البناء، ومسار الأحداث، وصناعة الحبكة.

ولأن هذا الواقع مشبع بتفاصيل عن حكايات وشخصيات أو نماذج بشرية منشغلة بالسياسة، بل تحترفها، تناسلت الحكايات الصغرى على ضفاف الحكاية الرئيسة في الرواية، لترسم لوحة معبرة بوضوج عن واقع اجتماعي، تغلب على أفراده الوصولية والنفاق والمداهنة والملاينة، ومعها المخاتلة والخداع.

والرواية نفسها لم تخل من هذا الخداع، الذي يلعب دوراً في جذب القارئ وإدخاله بنعومة إلى رحاب الرواية، وهو يحسب أنه سيقرأ عملاً أدبياً، ينتمي إلى تلك الأعمال التي تزاحمت في السنوات الأخيرة حول قضايا الفقر والتهميش الاجتماعي وآثاره، التي تنعكس على كثيرين، يجدون أنفسهم ضائعين في الشوارع، أو قاطنين في العشوائيات، أو مهاجرين بلا زاد ولا معرفة من الريف إلى المدينة من بين فقراء ومغبونين وثكالى وأرامل وأيتام وباحثين عن حد الكفاف في الزحام.

تبدأ الرواية بعبارة تقول: "يفترش الأرض بجوار إحدى جدران مسجد السيدة زينب، ينتظر من يحنو عليه بكسرة خبز أو طعام فائض عنه"، فنظن بأننا سنمضي مع سطورها في عالم المجاذيب والدراويش الذين يجسدون امتداداً تاريخياً للتكايا والخانقاوات، لكننا نجد أنفسنا قد انتقلنا سريعا إلى عالم آخر، متتبعين خطى بطل الرواية "درويش" الذي يذكرنا في بداياته، مع اختلاف في التفاصيل والنوايا، ببطل قصة يوسف إدريس "مدد يا ست"، الذي كان طفلاً صغيراً أخذته سيدة من زوار هذا المسجد التاريخي تركها أولادها، فراحت تبحث عن أنيس في وحدتها القاتلة، وحين أخذته إلى الحمام لتزيل عنه أدران الشوارع التي عاش فيها طويلاً، اكتشفت أن الرجولة قد دبت فيه، فاستعرت رغبتها، وأخذته إلى مآرب أخرى.

أما "درويش" فهو رجل ناضج، التقطته سيدة ثرية، رأت فحولته تطل من عينيه، وهي توزع صدقاتها على الفقراء والمشردين أمام المسجد، لتفتح له طريقاً إلى حواف "الحاشية" من طبقة أثريت بطرق ملتوية، وتستغله ستاراً في تعظيم ثروتها، ثم لا تلبث أن ترمي به من عل. من هنا يصير بطل الرواية أمثولة لانهيار القيم، والثراء الطافح، والطموح الجامح، والجشع الذي لا يحده رادع ولا وازع، ويصبح رمزاً لأجيال من الرأسماليين الطفيلين مروا على مصر منذ الانفتاح الاقتصادي عام 1974 وحتى الآن.

ومع هذه النقلة التي صنعتها الصدفة في حياة البطل توازي الرواية بين عالمين: قلة طامعة ترفل في رغد العيش بأموال لم تبذل جهداً في سبيل تحصيلها، وكثرة تنتظر الفتات المتاح، صابرة على الضيم، أو عاجزة عن التمرد الإيجابي، ولا سبيل أمامها لفراق العوز سوى أن تسلك الطريق المعوجة التي سار فيها هذا البطل الشهواني، وهو ما جرى لفتاة تسمى "مديحة" راودها زوج أمها عن نفسها فرفضت، وأراد اغتصابها فهربت إلى القاهرة لتقع في حبائل "درويش"، ليفقدها عذريتها، ثم يتخلى عنها على فراش الثرية "ثريا هانم"، فتلقى هي فيما بعد "سامح بك" وهو رجل من أصول قرية، ينقلها إلى عالم الثراء، بينما تنقلب أحوال من تركها رأساً على عقب، ويعود من رحلته الغريبة صفر اليدين، درويشاً حول مسجد السيدة.

بين هذين الخطين اللذين تمثلهما حياة "درويش" و"مديحة" تطل وجوه شخصيات عديدة من تجار سلاح ومخدرات، ومحترفي انتخابات، وسماسرة، وساعين بكل قوة لزواج المال بالسلطة، وتجار دين، ورجال أمن غلاظ، ومغرمين بقاعدة "المصالح تتصالح"، ومعدمين يحلمون بحياة أفضل ولو قليلا، أو ينتظرون الموت، ليشكل كل هؤلاء سببا للفساد والظلم، ما يبينه الكاتب بشكل واضح جلي حين يجعل أحد إهداءات روايته لـ "مصر وطن يحترمه التاريخ، ويظلمه أهله".

وقد بذل الكاتب جهداً كبيراً ليجمع هذه النماذج البشرية في نص واحد، كي يبرهن، عبر سرد تغلب عليه لغة تقريرية، على التغير السلبي الذي ضرب جوانب المجتمع، وبذا يمضي السرد موزعاَ بين عوالم السلطة والمال والجنس، وهو منحى سيطر على جانب من المشهد الروائي المصري الراهن، وإن كان لا يلغي مسارات إبداعية، روائية وقصصية ومسرحية وشعرية أخرى، حفلت بالأبطال الإيجابيين، وتمجيد البعد الحضاري، وإضاءة عبقرية الزمان والمكان لمصر، وفق تعبير جمال حمدان الأثير، واستعارة سحر الصوفية، وغرائب التاريخ، وقدرة بسطاء الناس في التحايل على العيش، وسطوع أمل في نفوس لا تزال تحلم بأن الغد سيكون أفضل من اليوم.

ويميز هذه الرواية احتفائها باللغة البصرية، إذ تشعر في كثير من المقاطع والمواضع أنك أمام آلة تصوير تحط على الأماكن والوجوه، فتمعن في رسم تفاصيلها، فيما لا يفوت الكاتب أن يشرح كل شيء عن شخصياته، من أين أتوا؟ وكيف حازوا ركيزة قوتهم؟ وما هو تصورهم عن الحياة والمستقبل؟ ثم يعطي كل منهم حرية الحركة عبر النص، بل نجده أحيانا يقوم بــ "مسرحة" الحوار بين شخصيات روايته، فيكتب اسم الشخص قبل ما ينطق به، على غرار ما يتم في الكتابة المسرحية، لكنه لا يسير في هذا على منوال نجيب محفوظ في رواية "ثرثرة فوق النيل" الذي وضع في قلبها نصاً مسرحيا كاملاً، كما أنه لا يمضي في تلك المسرحة على مدار النص، كما يفعل المسرحيون، إنما ينتقل بين أشكال عدة للحوار والتفاعل.

ورغم أن الحكاية المركزية هنا ليست بغريبة على أغلب الناس الذين يعرفون جيدا عما آلت إليه الأوضاع الاجتماعية في العقود الأخيرة، فإنها تتمتع بجاذبية نسبية، وتحمل مفاجأة أحيانا أو مصائر غير متوقعة لبعض شخصياتها، ويبدو أن الكاتب نفسه مندهشا بتلك المصائر، لاسيما أنه يكتب عن عالم، يعرف بعضه جيداً، ويسمع عن بعضه أو يقرأ أو يتخيل أو يريد له أن يكون على هذا النحو، وهو في حالاته تلك مسكون بانحياز إلى المهمشين الضائعين، ونفور من المترفين بلا سبب.

تبدو الرواية هي الأنضج لكاتبها الذي سبق أن أصدر روايتين قصيرتين هما: "فراشة الميدان" و"ناشطة سياسية"، ويتضح من عناوين الروايات الثلاث، أنه مأخوذ في طريق "الرواية السياسية"، التي أعرفها بأنها "هي الرواية التي تحمل مضموناً سياسياً، أو يكون السياق العام الذي يحكم مسيرتها ذا طبيعة سياسية، دون أن تتخلى عن فنيتها أو أدبيتها، وقد يكون هذا المضمون توجهات أو أفكاراً أو قضايا أو قيماً تتماس مباشرة مع الظاهرة السياسية بشكل صريح أو رمزي، لتعكس أحداثاً في زمان كتابتها، أو تستدعي تراثاً اجتماعياً وتسقطه على الواقع المعيش"، وينطبق على رواية "الحاشية" بعض من هذا.