صحف ورقية.(أرشيف)
صحف ورقية.(أرشيف)
الإثنين 16 يناير 2017 / 19:00

رائحة الورق

اختفت الجريدة الورقية تدريجياً من حياتنا، وقد طردتها تكنولوجيا الاتصالات والتواصل، وحلت مكانها مواقع إلكترونية وصفحات إخبارية تقدم الحدث لحظة وقوعه، ليس بالكلمة والصورة فقط

رجل يقرأ الجريدة في المقهى، وعلى طاولته فنجان قهوة وعلبة تبغ. يبدو المشهد من الماضي، وكأنه مقطوع من فيلم سينمائي قديم، فلم يعد أحد يقرأ الجريدة في المقهى، وقد صارت الصحف الورقية، أو ما تبقى منها، مجرد إكسسوار غير ضروري في مكاتب الدوائر الحكومية، يتسلى بقراءتها قلة من الموظفين الصغار الذين لا يمتلكون هواتف ذكية، فيمضون جزءاً من ساعات الدوام في حل الكلمات المتقاطعة، بينما ينهمك مدراؤهم في التواصل الاجتماعي من خلال هواتفهم الجوالة المتطورة.

اختفت الجريدة الورقية تدريجياً من حياتنا، وقد طردتها تكنولوجيا الاتصالات والتواصل، وحلت مكانها مواقع إلكترونية وصفحات إخبارية تقدم الحدث لحظة وقوعه، ليس بالكلمة والصورة فقط، ولكن بالصوت والفيديو أيضاً. واختفت مع الجريدة رائحة الورق والبن والتبغ، واختفى الرجل المسن الذي كان يجلس في المقهى الشعبي في وسط البلد، ممسكاً بجريدته ولفافة تبغه، ليظهر رجل أكثر وسامة وشباباً، يجلس في مقهى أجنبي التسمية، يحتسي الكابوتشينو ويعبث بهاتفه الجوال. يضحك أحياناً ويعبس أحياناً أخرى، وكأنه يقرأ مشهد العالم بكل ما فيه من إنجازات ومآسٍ.

يوجعني المشهد، وقد قضيت ثلاثة عقود تقريباً في مكاتب الصحف وغرف تحرير الأخبار، وقاعات المونتاج التي كانت تولد فيها الصفحة الأولى مزوقة كعروس في ليلة زفافها. لم تعد في الصحف الصادرة حتى الآن قاعات مونتاج ولا ماكيتات صفحات ولا توتر تحت ضغط مواعيد الطباعة. وقد اختفى ذلك الكاتب الحصيف الذي كان مكلفاً بكتابة الافتتاحية بما يمليه عليه التوجه الحكومي، وكان يسير بطاووسية ظاهرة في ممرات الصحيفة، وكأنه يقول لنا: انتبهوا أيها الهامشيون. أنا الذي سيقرأ مذيع الراديو غداً ما أكتبه الليلة، أما أنتم فلا أحد فلا أحد يأبه بما تخطون.

أذكر أيضاً مشهد رئيس التحرير العابس دائماً، والذي كان يحرص على قراءة بعض الصفحات قبل إرسالها إلى المطبعة، وغالباً ما كان يغلق باب مكتبه ليختلي بنفسه وبهاتفه الساخن مع الجهات المعنية، ثم يبدأ بالشطب المؤذي بقلمه الأحمر، ليشفي المادة الصحافية وينظفها مما يعتقد أنه زوائد ضارة! وقد كان هناك دائماً صحافي أو كاتب مشاكس يجادل "الأستاذ" ويرفع ضغط دمه الثقيل، فينفعل حتى تحمر وجنتاه وهو يشرح للصحافي بأنه يشطب مما كتب حرصاً عليه وعلى مستقبله المهني وخبز أطفاله. ويبدو أن معظم رؤساء تحرير الصحف التقليدية كانوا مؤمنين بأن الخبز والحرية نقيضان لا يجتمعان أبداً.

اختفى كل ذلك أو كاد أن يختفي بعد أن صارت الجرائد مضغوطة في شاشات الهواتف الصغيرة، وتحول رؤساء التحرير الداجنون إلى صقور ورقية معارضة، لكن جرائد قليلة لا تزال تصارع وترفض مسخ محتواها، ورؤساء تحرير يعدون على أصابع اليد الواحدة ما زالوا يواجهون مصائرهم بشجاعة ويرفضون التدجين، وينطقون بلسان الناس، ولأنهم كذلك يشتد حصارهم ويتعرضون للخنق المالي وتجفيف منابع الحق في المعرفة، ويضطر بعضهم إلى الانسحاب بكرامة وإعلان نهاية صحفهم المحترمة.

أكتب عن الجرائد وأنا استعيد رائحة الورق وملمسه، وأفتش بين المطبوعات المعروضة عن نسخة من جريدة "السفير" فلا أجدها، وأبحث عن مقالة الأستاذ طلال سلمان فلا أجدها أيضاً.
لم يعد للورق رائحة الخبز، ولم يعد في الجريدة ما يشير إلى أننا ما زلنا أحياء قادرين على التنفس بكرامة وطنية.. هذا زمان جديد يبدو أنه ليس لنا.