متظاهرون يحملون العلم اللبناني في بيروت.(أرشيف)
متظاهرون يحملون العلم اللبناني في بيروت.(أرشيف)
الثلاثاء 17 يناير 2017 / 19:22

بيروت ولعبة التناقضات

البلد الذي يباهي بحداثته وقربه من الغرب وتمتع أهله بحريات سياسية، بل وحريات شخصيه، هو ذاته البلد الذي تحكمه زمرة من عائلات، بعضها هو كذلك من قرون

بيروت هي لبنان، أو هكذا صارت بعد أن أفلت طرابلس وصيدا، وترّكزت الدولة والمؤسسات الإجتماعيّة الاقتصاديّة والثقافيّة فيها. بيروت نموذج استثنائي فهي بين المدن العربية الأقرب إلى مثال المدينة. إنها مقسومة الى مناطق متجانسة طائفياً بل هي في الأساس قسمان: شرقية وغربية، الأول مسيحي والثاني مسلم، إلاّ أن هذه القسمة المألوفة تتميّز بتحوّل تدريجيّ في قلب كلّ طائفة يمكننا أن نعتبره ثقافياً قبل كل شيء. قبل الحرب الأهليّة كان الاختلاط بين الجماعات والطوائف قد وصل الى مستوى ملموس. ويمكن اعتبار الحرب الأهليّة محاولة مبكّرة لتدارك هذا الاختلاط والحيلولة دون الوصول الى نتائجه. الحرب الأهلية التي كانت باكورة الحروب الأهلية في المنطقة كانت التصدّي السافر لمشروع بناء الدولة القُطريّة. هذا المشروع يعني بناء المجتمع على الاقتصاد والمصالح الفئويّة والثقافة المشتركة وانفصال الدولة النسبي عن المجتمع. لم يكن ممكناً تجاهل النمو الاقتصادي وتداخل شبكاته، كما لم يكن ممكناً إغفال النمو الثقافي القائم بالدرجة الأولى على ازدواج ثقافي يوازي بالقوة بين ثقافتين: عربية وغربيّة. وليس هذا الإزدواج الثقافي قائماً على التعليم وحده أو على معرفة اللغتين أو على التخصص بالفروع الأجنبيّة بل هو بالدرجة الاولى اقتباس القيم والمفاهيم وأنماط الحياة وأشكال التبادل والتعارف والحقوق والواجبات. من هنا هذا الإعتراف والقبول بالحريات الخاصة والشخصيّة والفرديّة. من هنا هذا القبول النسبي لحرية المرأة. ومن هنا هذه الطبقة المتوسعّة التي تتبنّى نمط الحياة الغربي من نواحيها المتعددة: الأسرة والتربية والعلاقات والحياة اليوميّة والفراغ. لنقل إن مفهوم المجتمع كان يقترب شيئاً فشيئاً من التماثل ومن التجانس وأنه كان يصل إلى مبان قائمة ليس على فروقات الطوائف أو على الميتولوجيات الطوائفيّة أو الضغائن التاريخيّة.

كان ذلك يحدث ليس بدون ردود وتحديات وإشكالات، فالنمط الاجتماعي الموروث ليس مجرد تركة أو حضور للقديم، إن له حضوره في اللحظة الراهنة وله تشابكاته مع النسيج الاجتماعي بتراتبياته وسلطاته ومراكز القوّة فيه. أي أن هذا النظام ليس عاجزاً وليس بدون دفاع وليس مسالماً ولا متخلياً. إن الصراع قائم ولو بدا أن الأمر ليس كذلك، أو بدا أن القوى الطوائفية والعشائرية والعائليّة والمناطقيّة مندمجة بل ربمّا بدت الأكثر اندماجاً في العمليّة الجديدة والمسار الحديث، ليست الرفاهية هي المعيار ولا نمط العيش ولا التقليد الغربي. المسألة تتصل من قريب وبعيد بالسلطة.آنذاك يمكن الفصل بين نمط الحياة وبين السياسة. تغدو السياسة أوسع حيلة فهي تتنصّل من الثقافة أو على الأقل، لا تنكرها. أي أنها لا تنكر الحداثة ولا تتصدّى للغرب الثقافي ولا للتعليم الغربي ولا للقيم الغربية، بل ربّما باهت بها خصومها وافتخرت بها عليهم. ما يحدث عندئذ هو تمويه إيديولوجي يقلب الأمور رأساً على عقب. إننا أمام تحايل متقن للدرجة التي يخفى بها على واضعيه، وللدرجة التي يخفى بها على الجمهور نفسه، وللدرجة التي يتحوّل بها الى عقيدة وإلى مبدأ. يصل التمويه الأيديولوجي الى نوع من المطابقة وإلى خديعة كاملة فيتوزع الصراع الى يسار ويمين، وإلى قومية وقطريّة، والى استبداد وديمقراطيّة.

هكذا قامت الحرب الأهلية في لبنان تحت هذا التمويه الأيديولوجي. هكذا يبدو لبنان لأول وهلة محطّة التناقضات، فهو الوسيط بين شرق وغرب وهوداعية الحداثة، بل هو مركز الحداثة، يبدو في الوقت نفسه وطن العائلية والطوائفية، بل يبدو أيضاً محل أوّل حرب أهليّة نشبت في المنطقة، فالبلد الذي يباهي بحداثته وقربه من الغرب وتمتع أهله بحريات سياسية، بل وحريات شخصية، هو ذاته البلد الذي تحكمه زمرة من عائلات، بعضها هو كذلك من قرون، ويرث ابن الزعيم البكر والده، هكذا عبر سلسلة متتالية أباً عن جد، وهو أيضاً البلد الذي تتنازع العشائر والعائلات والطوائف فيه، كما أن الدولة تتداعى جيلاً بعد جيل والقانون عرضة للانتهاك والتجاوز. بلد كهذا هو ملعب للتناقضات التي ليست إلاّ لعبة سلطة ينخرها المجتمع.