فلسطين قبل النطبة.(أرشيف(
فلسطين قبل النطبة.(أرشيف(
الخميس 19 يناير 2017 / 20:04

ولدنا في بيوت الرواة*

ثمة ما يشبه الانفصام هنا، فعلى الأرض وفي "المخيلة" اليومية الشعبية التي تغذيها غايات اليوم وحاجاته، يتحرك " الآخر/ العدو " ويتحدث بلغته، وينادى باسمه الشخصي، الآخر/ العدو

 "نحن منفيون في طريقنا للمنفى"، هكذا فكرت وأنا أتأمل وقفة أمي على أطلال قريتها، "زكريا"، بعد غياب قسري لنصف قرن، كانت تقف هناك أمام مقام النبي زكريا صحبة ثلاث من أخواتها، كن أربع أرامل متوشحات بالسواد وصلن تلك الصبيحة الى ساحة قرية "زكريا" التي أخذت اسمها من مقام مبهم للنبي زكريا، احتفظ بصورة لتلك الوقفة، فيما بعد سأكتب قصيدة قصيرة بعنوان بسيط؛ " أربع أخوات من زكريا" سيترجمها الشاعر العراقي الراحل سركون بولس الى الانجليزية وتنشر في مجلة "بانيبال"، ثم الشاعر الفلسطيني فادي جودة ويضمها الى مختارات صدرت عن جامعة "ييل" عام 2012.

هذه الحكاية حدثت في اللحظة التي كنت أخوض فيها حواراً طويلاً استغرق أسابيع طويلة مع محمود درويش في مقهى على إحدى تلال رام الله، حول تعريف "العدو".

في طريق العودة ستسألني، أمي، إذا كانت الصحفية الأميركية التي أخذتنا بسيارتها الخاصة، البنت التي تشبه العرب، كما كانت تصفها، قادرة على معرفة مصير "رفقة".

كانت تلك هي المرة الأولى عبر خمسين سنة التي تلفظ فيها اسم "رفقة"، المرة الأولى التي تدخل فيها صديقة طفولتها ومراهقتها اليهودية/ الفلسطينية في القرية قبل التهجير والنكبة إلى حكاياتها الكثيرة، فجأة تظهر بنت يهودية نحيفة بشعر أسود وعينين عربيتين وتبدأ بالتنفس والمشي في ذكرياتها، كما لو أنها، البنت اليهودية، تستيقظ من غيبوبة طويلة استغرقت نصف قرن وتنضم ببساطة مراهقة ومشيتها إلى أولئك الذين يواصلون التحرك في بيت العائلة، الذين منحتهم أمي، الراوية الحقيقية، حقوق العيش والتنفس في ذكرياتنا.

متأخرة وصلت "رفقة" ولكنها وجدت مكانها كما هو دون أن يمس أو يجري "احتلاله" أو زراعة آخرين في انحائه، ووجدت روايتها كما تركتها لم تمس، بحيث بدت تلك الوقفة على أطلال قرية زكريا، التي منحت اسماً جديداً تم اشتقاقه من اسمها الأصلي "كفار زخاريا"، أقرب الى مفتاح، كما لو أنها "أمي" حركت، دون قصد، أيقونة سرية في الجدار المغلق وسمحت بمرور يهودية.

تماماً كما فعل محمود درويش في قصائده المبكرة، "بين ريتا وعيوني بندقية" و"جندي يحلم بالزنابق البيضاء" و"سجل أنا عربي"، ثم في "عندما يبتعد" و"سيناريو أخير".

هكذا تخرج "ريتا " الخاصة بأمي تحت اسم "رفقة" وتبدأ بالتلويح لصديقتها العربية الشقراء من سفح الحرش حيث يمكن مشاهدة محطة قطار صغيرة في الوادي كانت تصل بين القدس واللد.

تدخلت "سرّية مشعل"، هذا هو اسم أمي والذي أظن أنه اسم تركي لا يزال متداولاً حتى بعد قرن من انتهاء الاحتلال العثماني لفلسطين، تدخلت في حوارنا الطويل درويش وأنا عندما وضعت ملاحظتين سريعتين قبل أن تنهض لصلاة العشاء، وقبل أن تقرر العودة الى بيتها في عمان شرق نهر الأردن. لأنها لا تريد أن تكون لاجئة في رام الله أيضاً، ولأن كل البلاد ستكون منفى بعد هجرتها من بيتها في "زكريا".

عندما غادرت المنفى الذي اقترحته عليها عائدة الى منفاها، كانت قد أضافت شخصية جديدة ورئيسية الى حكاياتها، "رفقة"، وكانت معنية تماماً بمصيرها، وبدا أنها قررت وبشكل نهائي أن تفتح ذلك الباب المغلق في حكايتها.

لماذا خرجتم من البلاد، سألتها
كنا خائفين، كانوا يقتلون الناس ويحرقون القرى، تقول "سرية مشعل".
قلت لمحمود:
أمس قدمت أمي اعترافين قبل أن تصلي العشاء، أن لها صديقة يهودية وأنها تفتقدها، و"أنهم" أفضل منا في الزراعة.

ثمة ما يشبه الانفصام هنا، فعلى الأرض وفي "المخيلة" اليومية الشعبية التي تغذيها غايات اليوم وحاجاته، يتحرك " الآخر/ العدو " ويتحدث بلغته، وينادى باسمه الشخصي، الآخر/ العدو الذي يصبح "رب العمل"، و"تاجر الجملة" و"صاحب المصنع" ومطلق النار" و"المستوطن" و"العنصري" و"المتدين الذي يستعير أدعية توراتية للقضاء على "العرب"، ولكنه يعود الى "جماعته" وغموضه في النص المكتوب.

لقد استطاعت الحياة اليومية بقسوتها تحت الاحتلال وفي المنفى أن تفكك العدو/ الآخر وتحوله الى آخرين، وأن تمنحه في التفاصيل الصغيرة صفات متعددة، وأن تصنفه دون أن تعفيه من الأرضية التي نشأت عليها "العلاقة/ التناقض" وهي "الاحتلال"، ولكنها أضافت الى تلك الأرضية صفات متعددة ومختلفة أنسنته تماماً، بينما ما زال "العدو" يتحرك في النص المكتوب داخل كتلته المغلقة محصنا ب"بلاغة" التجاهل.

  من مقال طويل نشر بالانجليزية في المجلة الأمريكية   World Literature Today