السبت 21 يناير 2017 / 20:08

"حافة الكوثر" ... مكتئب يبوح بألمه ليشفى فيصنع رواية لافتة

يطلق الكاتب والشاعر علي عطا سطور روايته الأولى "حافة الكوثر" وسط حالة من الغناء والبكاء، ووفق ما تجود به الطوايا وتعطيه السجايا لشخص يريد أن ييوح بعد طول صمت، وفي ظل رغبة في أن تكون الكتابة جسرا للعبور من الشقاء إلى الراحة، وهو في كل هذا يبدو متحررا، في مساحة سردية مفعمه بالشجن، من كثير من القيود التي درج عليها الفن الروائي التقليدي، ومتنقلا في الأمكنة، وراحلا في الأزمنة، ليرسم في نهاية المطاف ملامح عالم ليس بمألوف عن آثار مرض "الاكتئاب" تمتزج فيه التجربة الذاتية بالوعي العام، والألم بالأمل، والخبرة بالرغبة، والاستسلام بالإرادة، وينيخ الماضي بثقله على الحاضر.

تحكي لنا الرواية ببساطة حكاية رجل، ضغطت تصاريف الحياة وأقدارها المقبضة على نفسه، ولم يكن يمتلك القدر الكافي من المقاومة، فانهار وغرق في اضطراب شديد، فما كان له من سبيل سوى دخول مصحة نفسية حتى يستعيد توازنه، حيال إخفاقاته وإحباطاته سواء على مستوى حياته الخاصة، أو ما آلت إليه الأوضاع العامة، حين تعثرت ثورة يناير في وحل التشويه والاستقطاب والفساد وبقاء الاستبداد حيا.

فها هو بطل الرواية وساردها الأساسي يتحدث إلي صديق حميم يعيش بعيدا عنه، لكنه يستريح حين يبوح له في غيابه، قائلا: "حين ألمحت إليه بما يقال، وحدثته عن شوقي وحاجتي إلي وجوده المادي، هنا، حيث أكابد وحدي الاضطراب النفسي، والرغبة الملتبسة والملحة في كتابة ما جرى لي وللثورة، اكتفى برسالة قصيرة بعث بها عبر الإيميل في مهجره، أو منفاه".

في الحياة الخاصة تتوالى تفاصيل عيش طفل وجد نفسه مضطرا للقيام بعمل شاق من أجل تحصيل القوت، ثم مراهق يتطلع إلى حياة مختلفة، وشاب يهزه طموح عال للتحقق في عالم الكتابة، ويتجاوز ما كان عليه بعض الأصدقاء الذين يعرفهم عن كثب، مثل هذا الذي اقترب من الثمانين ويضج بشكوى الإهمال والتجاهل، وذلك الشاب الذي يشكو من عدم تقدير ما يكتبه بجائزة تنتشله من فقر مدقع، لكن البطل لا يكفه ما يصدره له هؤلاء من أسباب للقنوط، بل يجد نفسه موزعا بين الرغبة والقدرة وسط حياة شخصية معذبة بين امرأتين، تنتظر كل منهما ما تأخذه منه.

لكن الراوي، وبطل الرواية، لا يكتفي بذكر أطراف عدة من حياته الخاصة بل من حيوات آخرين عرفهم في المصحة، جميعهم ضحايا الظروف القاهرة الكاسرة، حتى لو تعددت الخلفيات المهنية والثقافية، وكلهم يبحثون عن ألفة بأي شكل، حتى أنهم صاروا يعتبرون المصحة التي دخلوها بحثا عن شفاء وطنا بديلا: "هل يمكن يا الله أن يصبح الكوثر وطنا بديلا لناسه الوافدين إليه رغما عنهم من كل حدب وصوب. هو بات كذلك بالفعل، ولا بديل له إلا شوارع لا ترحم ساكنيها".

ربما ينظر إلى هذه الرواية بأنها وسيلة للشفاء فعلا، وطالما سمعنا عن العلاج بالكتابة أو الموسيقى، فصديق البطل يدرك هذا ويقول له في رسالة بعث بها إليه: "أنت إذن تدرك ما الجوهر، فالأمر ليس مجرد ولع بشهرة، أو وسيلة للارتقاء الاجتماعي، بل هو الكتابة كموقف من العدم، أو كما تشير أنت متماهيا مع خاتمة رواية إيزابيل الليندي: (صور عتيقة) خلاص للذات عبر الكتابة فاكتب"، وحين أخذ الراوي بالنصيحة كان هذا العمل المختلف.

في الرواية اقتباسات من أشعار وحكايات ومعلومات عن أمراض وأدوية ومصحات ومستشفيات وكتب وأسماء روايات ورسائل بريدية وإلكترونية، وهناك أحداث وحوادث ووقائع عن الحرب والثورة والسياسات القائمة والصورة التي تلوح للمستقبل وتصاريف الماضي البعيد، وكل هذا مبثوث في ثنايا السرد بنعومة واختزال وحذر، عبر سرد عارم أحيانا ومقاطع ملقاة في الطريق أحيانا، وبلغة بسيطة آسرة تذكرنا بالطريقة التي كان يكتب بها إبراهيم أصلان، الذي تأتي الرواية على ذكر اسمه، ليس فقط لأن بطلها كان على علاقة به لعملهما معا في جريدة عربية كبرى، بل أيضا لأنه معجب بأسلوبه في الكتابة، وهي مسألة لم يخفها المؤلف نفسه حتى وهو يبدع أشعاره التي نشرها في دواوين ثلاثة هي "علي سبيل التمويه" عام 2001 و"ظهرها للحائط" عام 2007 و"تمارين لاصطياد فريسة" عام 2013 .

يتقاسم البطولة في هذه الرواية الاضطراب النفسي والراوي العليم أو الذات الساردة، فيمنح كل منهما فرصة البوح والمعنى والدور للآخر، ففيما يتمكن الراوي من سرد تفاصيل صغيرة تبدأ بالطفولة الغضة وتنتهي عند باب الكهولة، يرسم الاضطراب على توحشه ملامح المكان، ومدى الرؤية، وصورة المواقف على اختلافها، وتصرف الشخصيات الثانوية أو العابرة على تنوع علاقتها بالبطل، وكل الإجراءات والتدابير التي تستلزمها رحلة العلاج، التي لم تطل في الزمان، لكنها تعمقت داخل نفسية الراوي والبطل، ومنحته نافذة يرى منها الحياة بطريقة مختلفة عن تلك التي ألفها قبل أن يقع في فخ الاكتئاب العارض.

ويمكن النظر إلى هذه الراوية باعتبارها أشبه بسيرة ذاتية لبطلها وراويها وكاتبها "حسين جاد"، لكن الأمر يتعدى هذا إلى خاصية باتت متكررة، لدرجة أنها صارت ظاهرة، في الأعمال الروائية الأولى لأغلب الكتاب، إذ يجد الكاتب فيها نفسه مغرقا في ذاته ولذاته، وقد يدفعه هذا إلى كتابة كل شيء عن نفسه، لأنه يستدعي ما يعرفه، ويريد أن يسطر كل ما يخصه، مدفوعا بنداء داخلي، لاسيما إن كان يمارس عملية البوح والاعتراف بحرية أو عفوية. وهناك من يفارق هذه المرحلة ليرى حكايات الآخرين، ويوجد من يظل حبيس جدران نفسه لا يبرحها، فيصل إلى طريق مسدود.

وبعض النظر هنا عما إذا كان الكاتب يساير الآخرين عبر كتابة نفسه في عمله الروائي الأول أم أنه سطر لونا من أدب الاعتراف، فإن الراوية تنطوي في حد ذاتها على شجاعة، إذا أحلناها، أو فسرنا مضمون نصها، في ضوء أحاديث وتصريحات واعترافات الكاتب نفسه عما كابده من أحزان قاتمة دفينة قبل أن يشرع في كتابة هذا النص وأثناءه، في مقطوعات نشرها على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك"، أو نشرها في بعض الصحف، فلاقت إعجابا وإقبالا وتشجيعا من كثيرين في مقدمتهم صديقه أو صديق البطل المهاجر إلى ألمانيا والذي أسماه "الطاهر يعقوب" الذي طلب منه أن يكمل ما بدأه، وهو ما عكف عليه فكانت هذه الرواية.

ولا تقف الشجاعة عن حدود الحديث عن الحالة النفسية السيئة لبطل الرواية إنما أيضا بعض ما يعتور أسرته، حيث الأب الذي يعمل بائعا متجولا ويدمن الأفيون والحشيش، وحين يموت يدفن في مقبرة مكتوب عليها:"صدقةٌ جاريةٌ لمن لا يمتلك قبرًا. تبرُع مِن الحاج السيد الشناوي"، وكذلك ما يحيط بتلك الأسرة حيث نجد واقعة "زنا محارم"، وحالة عامة من التيه والضياع والشعور الدفين بالاغتراب والعجز، تجسده تلك العبارة التي يقول فيها الكاتب: "تقول الأسطورة العائلية إنها بقيت شهورًا قبل موتها لا تأكل ولا تشرب، ولا تتغوط أو تبول، وصمتت تمامًا، ثم فجأة توقف قلبها عن النبض، فحملناها إلى مقبرة عائلتها في باب النصر، لترقد إلى جوار زوجها الذي أذاقته الأمرَّين بتقلبها المزاجي الحاد، حتى سبقها إلى الموت بسنوات طويلة، فدفنته في مقبرة عائلتها، ثم ألحقت بها ابنها الأصغر؛ عمي فارس، الذي طالما دلَّلته، حتى اندمج مع رفاق علَّموه النشل، فترك صنعة عُلَب الكرتون، وسرعان ما اعتلَّ قلبه، ربما من كثرة التردد على أقسام الشرطة، ما عجَّل بوفاته وهو في ريعان شبابه، دون أن يهنأ بزوجةٍ سوى لأيام قليلة".

إننا أمام رواية لافتة، ليس فقط بموضوعها ومضمونها وشجاعة الطرح الذي تنطوي عليه إنما أيضا بسلاستها وتدفقها وقدرتها على ملامسة شغاف القلوب، وسط حالة من التعاطف مع التوسل بالكتابة في سبيل تخفيف أزمة نفسية تكاد أن تجهز على كيان البطل، وتقضي على ما أنجزه وما يأمله، وما يعوله عليه الآخرون من دور في عالم الإبداع الأدبي ومهنة الصحافة بوجه عام، ليس هو فحسب بل أيضا أبناء الطبقة الوسطى التي صنعت ثورة يناير، وكانت طليعتها وأغلب جمهورها، فوجدنا كثيرين منهم يحيطون ببطل هذه الرواية ليس فقط في "ميدان التحرير" فقط إنما في "مصحة الكوثر" أيضا، وفي المكانين صاروا على حافة الخطر، لاسيما في ظل الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعيشه مصر حاليا.