السبت 21 يناير 2017 / 20:04

ترامب... بلاغ رقم صفر!

في الخمسينيات من القرن الماضي، تسيد العرب ظاهر الانقلابات العسكرية الفاشلة والناجحة.

وكان الجمهور العربي يستمع إلى بلاغات الانقلاب عبر إذاعات مشوشة، يحذوهم إلى ذلك فضولٌ أقرب إلى الأمل في معرفة هوية الانقلابيين وتوجهاتهم.

كان صناع الانقلاب يفوزون حين تصل دباباتهم إلى القصر الجمهوري أو الملكي، وفي ذات الوقت وربما قبل ذلك إلى الإذاعة ثم التلفزيون فيما بعد.

كان متابعو أخبار الانقلاب، يستمعون غالباً إلى استهلال بجملة واحدة، وإلى خلاصات بجملة واحدة أيضاً، ولا أحد يعرف لماذا كان الانقلابيون يفضلون مفردة "الطغمة" في وصف النظام الذي انقلبوا عليه، مع أن الحال كان واحداً سواء في زمن الطغمة أو زمن المنقلبين عليها، إلا أن المواطنين الأبرياء والبسطاء، كانوا يتأملون بأن يأتي الانقلاب بأفضل مما عانوا منه، ولا ننسى أن خاتمة البلاغ المتكرر كانت الوعد القاطع باستعادة فلسطين، التي فرط فيها وتخاذل عن نصرتها من سبقوهم.

وأنا أتابع احتفال الـ 200 مليون دولار الذي أقيم في واشنطن، احتفاء بتنصيب دونالد ترامب رئيساً يحمل الرقم 45، كنت أنتظر بفارغ الصبر خطاب القسم لعلني أمسك منه خيطاً يساعدني على استنتاج بعض ما سيفعل الرجل، إلا أني وبعد إصغاء مركّز خرجت بخلاصة أولية وهي أن الرجل استنسخ حكاية الانقلابات والقضاء على "الطغمة" لمصلحة غدٍ مشرق، تبدأ منه الإنجازات الكبرى، وكأن الولايات المتحدة الأمريكية بقضها وقضيضها، ولدت على يد هذا الرجل الذي إن استطاع تنفيذ ربع ما وعد به في الحملة والخطاب، فيستطيع الادعاء بعد ذلك بأنه مبعوث إلهي، فوق كونه رئيساً استثنائياً لأعظم دولة في العالم.

كان خطاب ترامب فيه كل شيء، وبالإمكان القول كذلك .. لم يكن فيه أي شيء.

كان في الفترة الانتقالية التي بدأت لحظة إعلان النتائج وانتهت عند الساعة الثانية عشرة بتوقيت واشنطن، هي أكثر فترة قلق فيها العالم من أي رئيس منتخب، فالغموض وإغداق الوعود الثورية، والتبشير بتغيرات جذرية داخلياً وخارجياً دون توضيح للاتجاه، أصاب العالم بنوع من الذعر لم يسبق إن شعر به منذ أن كان هنالك رؤساء للولايات المتحدة، وأجهدت مؤسسات البحث والدراسة نفسها في استنتاج ما الذي يمكن أن يفعله هذا الرجل مع القطب النامي الجديد روسيا، وما الذي سيفعله مع القطب الآخر الصين، وهل حقاً سيضفي شرعية على الاستيطان الإسرائيلي، وشرعية موازية على احتلال إسرائيل للقدس وتسميتها عاصمتها الأبدية، بعد أن ينقل السفارة الأمريكية إليها، وهل سيلغي الاتفاق النووي مع إيران، وهل سيفكك حلف شمال الأطلسي، وهل سيحجم الأمم المتحدة التي وصفها أنها مجرد منتدى للتسامر وقضاء الوقت، وهل سيقلب المعادلة الداخلية في أمريكا ليصبح الفقراء سادة الأغنياء، وهل سيقوض التحالف مع الاتحاد الأوروبي لمصلحة تركيز تحالف مع بريطانيا الخارجة عن هذا الاتحاد ... ومائة هل على هذا المستوى تدور في أذهان سياسيي العالم بعد أن سمعوا ما سمعوا في الحملة وخطاب القسم.

إن ترامب نصير الفقراء، حيث يحاول إقناعهم بأنه واحد منهم، بدا وهو على باب المكتب البيضاوي كما لو أنه ما يزال في الحملة، ولم يخطر بباله أن فقراء أمريكا الذين وعدوا بنقل البيت الأبيض من واشنطن إلى حواريهم المكتظة بكل مظاهر التخلف والجهل والجوع، لن يستذكروا ان الذي وعدهم بذلك هو من ألغى أو قلص في اليوم الأول لتنصيبه المكاسب الصحية التي حصل عليها عشرون مليون أمريكي، ولو كان خطابه منطقياً لطور الأمر ليستفيد منه أربعون مليوناً أو أكثر.

نحن نحتاج إلى بعض الوقت لرؤية الأفعال، وهذا الوقت يسمى في تقاليد وأعراف الحكم بالمائة يوم الأولى.

ومعروف أن استطلاعات الرأي في أمريكا معقولة إلى حد بعيد، في إعطاء الحكم الشعبي على الأداء، فإن استمر نجم ترامب في الصعود فليس لنا والحالة هذه إلا مراجعة حساباتنا وتقديراتنا، وحتى مراجعة فهمنا لأمريكا وكيف تتصرف، أما إذا هوى المؤشر إلى نقاط متدنية فساعتئذ تصدق المقاربة بين ظاهرة ترامب، وظاهرة الانقلابات العسكرية، أما إذا حدث لترامب ما حدث لنيكسون حيث أرغم على الاستقالة لخلل في أداء مهامه الرئاسية، فساعتئذ يكون خطاب التنصيب مجرد بلاغ يحمل الرقم صفر.