الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.(أرشيف)
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.(أرشيف)
الأحد 22 يناير 2017 / 19:48

الشعبوية تسكن البيت الأبيض

خطاب دونالد ترامب، القصير، بعد تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة، يوم الجمعة الماضي، يمثل مرجعية لكل باحث عن معنى ودلالة ومخاطر سياسات الشعبوية

ما هي الشعبوية؟
لا توجد نظرية خاصة، أو قاعدة، يمكن الاعتماد عليها، للحكم على هذه السياسة، أو تلك، أو هذا السياسي أو ذاك، بالشعبوية. وبالقدر نفسه، فإن الظاهرة المعنية لا تقتصر على اتجاه أيديولوجي دون غيره، إذ يمكن العثور عليها في معسكري اليمين واليسار على حد سواء. لذلك، لم يكن من قبيل الصدفة أن يوصم دونالد ترامب، مرشح الجمهوريين، في انتخابات الرئاسة الأمريكية بالشعبوية، وأن يوصم اليساري بيرني ساندرز، أحد أبرز مرشحي الديمقراطيين في الانتخابات نفسها، بعد هيلاري كلينتون، بالشعبوية، أيضاً.

ومع ذلك، فإن خطاب دونالد ترامب، القصير، بعد تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة، يوم الجمعة الماضي، يمثل مرجعية لكل باحث عن معنى ودلالة ومخاطر سياسات الشعبوية، وتتجلى فيه أبرز الملامح، التي اجتهد العاملون في علوم السياسة والاجتماع، على مدار العقود القليلة الماضية، في تحديد ملامحها وتعريفها.

فالشعبوية، عموماً، تنطوي على عداء مضمر وصريح للمؤسسة، والنخب السائدة، وعلى زعم تمثيل الشعب. وفي هذا المعنى جاء كلام ترامب، الذي قال إن السلطة في الولايات المتحدة لا تنتقل، الآن، من رئيس إلى آخر، بل تنتقل لكم، أنتم الشعب الأمريكي.

والواقع أن اختزال الانتخابات واللعبة السياسية في الولايات المتحدة في تعبيرات كهذه ينطوي، في نظر المعنيين بعلوم السياسة والاجتماع، على مخاطر جدية. فالمكتوب يُقرأ من عنوانه كما يُقال. كان ترامب، ولا يزال، جزءاً من النخبة الاقتصادية السائدة، وتمكّن من بناء امبراطوريته المالية، والتجارية، بالشراكة والتعاون مع النخبة السياسية لا ضدها. لذا، يمكن العثور في كلامه ضد المؤسسة والنخبة، و"انتقال" السلطة إلى الشعب (الذي أصبح ممثله الشرعي والوحيد) على قدر من التضليل الأيديولوجي لا يخفى على أحد.

وبالقدر نفسه، فإن الكلام عن "الشعب الأمريكي" في تعبير جامع ومانع، يعني محاولة لتفادي الاعتراف بحقيقة التعددية الاجتماعية والسياسية والثقافية (والإثنية، أيضاً)، ناهيك عن تضارب المصالح الاقتصادية، التي تسم المجتمع الأمريكي وبهذا المعنى تتجلى أوّل وأهم سمات الشعبوية: رفض الاعتراف بالتعددية، واحتكار الحق في تمثيل "الشعب"، ما يعني تجريد الخصوم من كل جدارة أخلاقية أو سياسية مُحتملة.

مسألة رفض التعددية، وتجريد الخصوم من الجدارة الأخلاقية والسياسية، من العلامات المُميّزة للشعبوية. وهي المرافعة التي جعل منها الألماني جان فيرنر موللر، أستاذ العلوم السياسية في جامع برنستون الأمريكية، ركيزة أساسية في سياق بلورة مفاهيم نظرية حول معنى ودلالات الشعبوية. ولعل كتابه الصادر بالإنكليزية في آب من العام الماضي بعنوان "ما هي الشعبوية"، من أفضل ما كُتب في هذا الموضوع حتى الآن.

ويكتسب كتاب موللر أهمية إضافية كونه جاء عشيّة تنامي سياسات ولغة الشعبوية في الولايات المتحدة، وصعود دونالد ترامب، الذي نجح أخيراً في الوصول إلى البيت الأبيض بشعارات معادية للنساء، والمسلمين، والأمريكيين من أصول أمريكية لاتينية. ففي معرض الكلام عن المخاطر الأيديولوجية التي تجابه الديمقراطية في عالم ما بعد الحرب الباردة، وبعد توضيح ما رافق تصوّرات فوكوياما عن نهاية التاريخ من سوء فهم، يرى موللر أن الشعبوية تمثل التحدي الرئيس، وخطرها مميت لأنها تنشأ في الحاضنة الديمقراطية نفسها، وتعتاش عليها، وتتكلّم لغتها، وتزعم تبنى قيمها، وتؤدي في النهاية إلى تجويفها، وتحويلها إلى إطار شكلي بلا معنى.

وبالعودة إلى خطاب ترامب الرئاسي الأوّل يبدو أن أحداً من الباحثين في علوم السياسة والاجتماع لن يشكو بعد الآن من ندرة وغموض الشواهد الشعبوية. وليس من السابق لأوانه القول إن مخاطرها، في الولايات المتحدة، لم تعد نظرية فقط. ولا يحتاج الأمر، في الواقع، إلى أكثر من قراءة متأنية لخطاب دونالد ترامب الرئاسي الأوّل لإدراك مخاطر وخطورة الشعبوية التي سكنت، منذ يوم الجمعة الماضي، البيت الأبيض.