زعيم داعش أبو بكر البغدادي.(أرشيف)
زعيم داعش أبو بكر البغدادي.(أرشيف)
الأربعاء 25 يناير 2017 / 19:57

دولة واحدة من طنجة إلى جاكرتا

لا يختص مذهب دون البقية بهذه الأفكار الغريبة، فجماعة ولاية الفقيه يفكرون بطريقة مشابهة، بل طريقتهم كارثية فعلاً، فولي الأمر عندهم يُفترض فيه أن يحكم العالم بأسره، وليس بضع دول فيها أكثرية مسلمة

كان خليفة المسلمين، أو السلطان، أو الوالي، يستمد شرعيته من مفهوم ولي الأمر طوال العمر المديد لدولة الخلافة الإسلامية، وبإعلان موت تلك الدولة رسمياً، وتأسيس الدولة الوطنية الحديثة، حاول رجال الدين، الذين بقوا أسرى مفهوم ولي الأمر، "تركيب" ذلك المفهوم على الدولة الوطنية، فالتي تأسست على النظام الجمهوري، صار رئيسها ولي الأمر، والتي تأسست على النظام الملكي، صار مليكها ولي الأمر.. وهكذا.

أما مواطنو تلك الدول الحديثة، فمنهم من أخذ يعرّف نفسه كمواطن في بلد له دستور، هو الذي ينظم علاقته بالسُلطة في بلده، ومنهم من أخذ يعرّف نفسه كأحد رعايا ولي الأمر، ورجل الدين (الحارس على ذلك المفهوم) هو الذي ينظم علاقته بولي الأمر، أي علاقته بالسُلطة في بلده.

وبطبيعة الحال رجل الدين هنا يمثل الشرع الإسلامي، أعني أنه الوسيط بين المواطن والشرع، فهو الذي يقول له الشريعة تبيح هذا الشيء أو تحرمه. ولأن هذا المواطن الذي يمكن وصفه بالمواطن الشرعي لا يخطو خطوة إلا بالرجوع لرجل الدين، فمن المهم أن نعرف رأي رجال الدين في بعض المسائل المتعلقة بفكرة الدولة، لا لأهمية رأيهم، وإنما لجهة أن المواطن الشرعي يعود إلى تلك الآراء.

في مقال سابق في هذا الموضوع كان الكلام حول شرعية السُلطة في نظر رجال الدين، وفي هذا المقال سيكون الكلام حول شرعية الدولة نفسها، وأعني الدولة الوطنية الحديثة، ليتضح أي مأزق نقع فيه عند إعلاء مفهوم ولي الأمر على حساب مفهوم الدولة.

يعتقد رجال الدين، وللدقة الكثير منهم، أن الأصل هو وجود دولة واحدة لجميع المسلمين، يحكمها شخص واحد، وهذا الرأي المعتمد لديهم إلى يومنا هذا، ووجود أكثر من حاكم ودولة استثناء على الأصل.. وإلى الله المشتكى!

ولأن تعدد الحكام مخالف لما يفترض أن تكون عليه الأمور، فقد اجتهد رجال الدين جزاهم الله خيراً في البحث عن أردية شرعية لإلباسها الحكام المتعددين، ليكون كل واحد منهم شرعياً وواجب السمع والطاعة في بلده، بعد أن ضنّ الزمان عليهم بإيجاد خليفة واحد يحكم كل بلاد المسلمين من طنجة إلى جاكرتا.

قالوا مثلاً إن ثمة حاجة وضرورة لوجود أكثر من حاكم في هذا الزمان، وإن النصوص الدالة على وجوب طاعة ولي الأمر مطلقة ومن ثم تنطبق في حالة تعدد الحكام، وأن هذا الحاكم له السمع والطاعة حتى وإن قصّر في أداء واجبه الشرعي بتوحيد البلاد الإسلامية تحت سلطانه.. بمعنى أن التزام كل حاكم لبلد إسلامي بحدود بلاده وعدم غزوه البلاد الإسلامية الأخرى لتوحيدها تقصيرٌ عظيمٌ من جانبه، لكن غفر الله له!

ولعل أكثر حججهم لشرعية تعدد الحكام غرابة هو قولهم إن تعدد الحكام أمر لا بد منه لتباعد الأقطار وصعوبة تبلغ جميع المسلمين بأخبار حاكمهم الواحد الأوحد، والتكليف بالطاعة في هذه الحالة تكليف بما لا يطاق!

ووجه الغرابة في هذه الحجة أن الأقطار على العكس، صارت متقاربة اليوم أكثر، بل العالم كله صار قرية واحدة، والأخبار تصل اليوم في لحظة واحدة، ويمكن أن يتبلّغ الجميع بها في دقائق معدودة، ولو هلك أمير المؤمنين على فراشه في بنغلاديش مثلاً، لأمكن بوسائل التواصل الحديثة نقل لحظات احتضاره على الهواء مباشرة لجميع سكان الأرض، على عكس الحال في الأزمنة الغابرة، حيث كان الخليفة يموت في بغداد، ويركب أحدهم حصاناً ويسير لأيام وليالٍ حتى يصل إلى القاهرة، ويهتف في السوق أو في أذن الوالي: البقاء لله، الخليفة مات! ثم يخرج شخص وهو يحمل طبلاً وينعى أمير المؤمنين بين الأزقة والأسواق، ويبدأ الناس في البكاء والعويل.

هذا مع وجود طائفة منهم يردون على كل تلك الحجج، ولا يقرّون بمبدأ تعدد الحكام بأي حال من الأحوال، ولا يرون شرعية لأي بلد إسلامي، ولا شيء يثير غضبهم مثل وجود الحدود بين البلدان الإسلامية، وينامون ويصحون وهم يتخيلون اليوم الموعود، حين يقتحمون الأسلاك الشائكة والجدران العازلة والمراكز الحدودية بالبلدوزرات.

ولا يختص مذهب دون البقية بهذه الأفكار الغريبة، فجماعة ولاية الفقيه يفكرون بطريقة مشابهة، بل طريقتهم كارثية فعلاً، فولي الأمر عندهم يُفترض فيه أن يحكم العالم بأسره، وليس بضع دول فيها أكثرية مسلمة، إذ ولاية ولي الأمر في نظرهم بمنزلة إمامة أئمة أهل البيت، غير محدودة بقوم دون قوم، وبصقع دون أُخر.

ولهؤلاء فلسفة مضحكة تقول إن الأرض ملك للإمام الغائب، وما دام الولي الفقيه ينوب عن الإمام في حال غيبته، فتصبح الأرض كلها، بما فيها وما عليها، تحت تصرف الولي الفقيه باعتباره وكيلاً عن المالك الأصلي، مع مراعاة أن تكون تصرفاته شرعية بطبيعة الحال، فيقتطع مثلاً ولاية كاليفورنيا المغتصبة من قِبل الأمريكيين ويهبها لأحد أئمة المساجد، ويشفق على حال أحد الوعاظ الفقراء، فيعطيه حق استثمار خيرات المحيط الهندي، ويهب كل الأموال الموجودة في البنوك السويسرية لشخص يثق بأمانته.

ومن ثم، لا يمكن للمواطن الشرعي (الذي يسير خلف رجال الدين) أن يقطع حلمه بعودة الخلافة. نعم قد يصرخ بأعلى صوته: "لا لعودة الخلافة!"، لكن ليس لأنه مشروع بائس لن يقوم إلا على أنقاض دولته بالذات، بل لأن الكلمة متفرقة، والأخطار محدقة، والظروف غير مهيأة، والزمن غير الزمن، كما يقول السادة العلماء!

وموقف المواطن الشرعي من دولة الخلافة، أو دولة الإسلام التي يحكمها شخص واحد، إذ يمكن أن يكون ذكياً ولا يردد اسم "الخلافة" على لسانه، رغم أن مضمون الدولتين واحد، ليس موقفاً عاطفياً ومجرد حنين لماضٍ يعتقد أنه كان عظيماً، وإنما هو موقف عقائدي يسمعه ليل نهار من رجل الدين الأفاضل.

والخلاصة أن المواطن الشرعي يعتقد أن كل هذا زائل، أو يُفترض أن يزول، بل يعتبر تعدد ولي الأمر مما عمّت به البلوى، ويحوقل ويسترجع ويطلب من الله أن يوحد كلمة المسلمين تحت راية واحدة وإمام واحد، بمعنى أن هذا الوضع طارئ يجب أن يزول.

وربما المواطن الشرعي لا تخطر هذه الأمور بباله أساساً، لأنه ببساطة لم يفكر بها وليس لسبب آخر، ولو تعمّق في كلام رجال الدين في هذه القضية، وقرأ ما بين سطورهم، سيصل إلى تلك النتيجة، وهي أن دولته التي ينتمي إليها، والدول الأخرى التي ينتمي إليها المليار مسلم الآخرين، يفترض أن تزول كلها لتقوم دولة واحدة، يحكمها إمام واحد، ليعانق بعضهم بعضاً تحت ظلّه الوارف.