الروائي الفرنسي ميلان كونديرا.(أرشيف)
الروائي الفرنسي ميلان كونديرا.(أرشيف)
الأربعاء 25 يناير 2017 / 20:01

هوامش

أشرف لصانع الدراما الدخول مباشرةً إلى الحدث بدلاً من إيهامنا بأنه يتمتع بترف التسلية التي تجد عند كل صُنَّاع الدراما جاذبية لا تُقَاوَم

يستدرج الزمن، في الحياة والأفلام والروايات، الأبطال، لمعاينة آثاره على بيت أو وجه أو طريق. المقارنة بين زمن ماض وزمن حاضر، تصنع إنتصاره، وتصنع هزيمة أبطاله. الأفلام أعلى الهزائم صوتاً، فهي تُجسِّد في تقنيتها، إضافةً للدراما أو بعيداً عنها، مفارقة سهم زينون، سيولة الزمن عبر ملايين الصور الثابتة.

يأكل النسيان حدثاً دون قاعدة، يتم الهجوم على بدايته أو وسطه أو نهايته، لكن يبقى في كل حدث، نقطة ما أو علامة أو كلمة أو إشارة، هي الأكثر مُقاوَمَة للنسيان، وهي التي تجعل ضياع الحدث وهروبه ممكناً. فبينما تُشيِّك أنت على الحدث فجأةً، لمجرد الاطمئنان، وليس للعق الآلام، تظهر ساطعة، ملوحة لك بأنها ما زالتْ هنا، والتلويح ليس لقطع المسافة الآن.

كونديرا بعد أن تجاوز الثمانين، كتب رواية "حفلة التفاهة"، وفيها أحد الأبطال يُخبر صديقه كذباً أنه سيموت بالسرطان بعد وقت قصير. القارئ الذي يعرف كونديرا في رواياته السابقة، ويعرف استخدام كونديرا للنكتة أو المزحة، سيقول: ما كان لكونديرا أن يستخدم النكتة بهذا اليأس المظلم. إن خفة النكتة ورشاقتها، تترفع على شيء ثقيل جهم مثل مرض السرطان.

أشارتْ البطلة في حديثها إلى نجاح كتابه، فما كان من البطل إلا وأنزل هذا النجاح إلى حضيض القيمة، لكن لم يفته ربط روايته في انعدام قيمتها برواية موبي ديك لميلفيل، فردَّ على تهنئة البطلة بقراءة روايته قراءة كاسحة: مَنْ قرأ موبي ديك؟ وكأنه سيكون سعيداً أكثر لو لم تُقرأ روايته كما هو الحال مع موبي ديك. إلا أن طبيعة الفيلم الرومانسي اللطيف لا توحي بأن البطل قادر على مصير موبي ديك. لم تخف البطلة من تهديد ميلفيل التراجيدي، وقالتْ باستهانة: أنا لم أقرأ موبي ديك، لكنني قرأت روايتك. ولو لم تكن البطلة هي موضوع روايته، لنالتْ البطلة من ميلفيل وموبي ديك معاً.

جاء الفيلسوف إمبادوقليس السابق على سقراط، بمبدأين، مبدأ خاص بالانفصال، ومبدأ خاص بالاتحاد، مبدأ الانفصال سمَّاه بالكراهية، وهو الذي يفرق بين الأشياء، ومبدأ الاتحاد سمَّاه بالمحبة، وهو الذي يجمع بين الأشياء، هذان المبدآن أحدهما أزلي، وهو مبدأ الانفصال، والآخر أبدي، وهو مبدأ الاتحاد. المبدآن يتناوبان السيادة في الكون، فتارة تكون السيادة للكراهية، وطوراً تكون السيادة للمحبة. مال أمبادقليس إلى جعل مبدأ الكراهية متغلباً على مبدأ المحبة، ولهذا ترك لنا فردة الحذاء اليسرى التي لفظها بركان أتنا بعد أن ألقى الفيلسوف نفسه في أتونه، وقيل كانت غايته أن يختفي تماماً دون أثر، فيعبده الناس كإله، وهذا هو الاحتمال الصائب، لأن فردة الحذاء البرونزية لم يكن بها انحناءات القدم التي تدل على أنها الفردة اليسرى، إلا أن فيلسوفاً آخر، وهو مالبرانش وجد تفسيراً لم يفكر فيه أحد، فقال: الأزلي هو ما لا بداية له، والأبدي هو ما لا نهاية له، شرط أن يكونا على خط استقامة واحدة، وبهذا يكون الشيء أبدياً دون أن يكون بالضرورة أزلياً، فإذا تصورنا الأبدي وكأنه رأس حربة يدفعها الأزلي من الخلف باستمرار، بحيث يبدو الأبدي بكامل طاقته لم يأخذ فرصته بعد، أي أنه لم يبدأ بعد، ولهذا أكدَّ مالبرانش أن فردة الحذاء الملفوظة على حافة البركان، هي فردة الحذاء اليسرى.

وجدتُ في درج مكتبي طوابع بريد تذكارية للعبة الكاراتيه. كانت الطوابع تصوِّر الحركات القتالية الشهيرة التي شاهدتها كثيراً في الأفلام السينمائية. وكان الثبات والجمود في الطوابع مغرياً لتقليد الوضع القتالي، وبعث الصيحة على وجه المقاتل. هكذا ألصقتُ طوابع الكاراتيه بترتيب معقول على حافة مرآة الحمام الكبيرة. وفي الليل كنتُ آخذ أحد الأوضاع وأدور به في أنحاء البيت باعثاً الصيحة القوية، طاعناً باليد والقدم الخصم.

في كثير من الأعمال الفنية تبدأ القصة مع شعور البطل بملل وحاجة شديدة إلى التسلية، في الغالب تكون التسلية هي نقطة انطلاق الدراما، وما يأتي بعد هذا في الرواية أو الفيلم ليس له علاقة بأوقات التسلية الطويلة، وكلما كان الكاتب أو المخرج متعجلاً للدخول في صلب الرواية أو الفيلم، كلما شعرنا بعدم الرضى، فمَنْ يعرف حقاً أوقات التسلية لا يتصور اختزالها سريعاً، وأشرف لصانع الدراما الدخول مباشرةً إلى الحدث بدلاً من إيهامنا بأنه يتمتع بترف التسلية التي تجد عند كل صُنَّاع الدراما جاذبية لا تُقَاوَم، والسبب أن التسلية عندما تُفْرَضَ على الشخصية الدرامية يُفْرَضَ معها بشكل آلي حِمْلٌ وجودي صامت، وهذا الحِمْل هو معيار حقيقي لقدرة الفنان، فما يعطي في النهاية ثقلاً للدراما ليس ما يحدث، بل التمهيدات والفراغات والثغرات التي تتعرَّض لها الدراما أثناء ما يحدث، فعلى سبيل المثال الفرق بين سرعة الدخول للحدث الدرامي عند ستيفن كينج وعند هيمنجواي، ورغم رغبة ستيفن كينج أحياناً في تأمل جيوب الدراما الظليلة المليئة بالتمهيدات والفراغات والثغرات، إلا أن الحدث الدرامي يبقى عنده دائماً على درجة عالية من الإثارة الجديرة كما هو العادة بفيلم أمريكي يُستَهْلَكَ في زمن عرضه، أمّا هيمنجواي فهو سيد التمهيدات والفراغات والثغرات الشاعرية فيما فوق وتحت الحدث الدرامي، ولهذا نجد شخصياته بنَزَعَاتِها الوجودية تتوقف كثيراً في الأزمنة الضعيفة، قياساً بزمن الحدث الدرامي القوي والمُعْتَمَد مهنياً، تتوقف أمام الفطور الصباحي وما يصحبه من سعادة كما في روايته الأخيرة جنة عدن، وبالمثل تتوقف أمام وصف موتور قارب أو بندقية صيد كما في رواية إن كنت تملك وإن كنت لا تملك، وهذه التوقفات الوصفية ليستْ على طريقة الرواية الكلاسيكية التي تتوقف لوصف الجو العام لأحداث معركة، على سبيل المثال لدى تولوستوى في الحرب والسلام، بل هي توقفات من نوع آخر، لا يشعر معها القارئ بأهداف استراتيجية تخدم العمل الدرامي في وحدته الكلية، إنها تخدم فقط الفراغ الذي وُجِدَتْ فيه بالصدفة، تخدمه إلى حد الامتلاء، فيكف الفراغ عندئذ عن كونه جسراً لشيء لاحق في الدراما، أي أن التسلية في النهاية رغم سمعتها السيئة درامياً، عليها أن تصير داخل العمل الفني بكامل الحقوق الممنوحة للحدث الدرامي.