رسم تعبيري.(أرشيف)
رسم تعبيري.(أرشيف)
الجمعة 27 يناير 2017 / 19:58

الأيام الأخيرة للديمقراطيّة

الديمقراطيّة التي تبنتها الأنظمة الكولونيالية كانت مثلها مثل الأنظمة، مريبة غير موثوقة. لذا لم يمر الوقت عليها حتّى تزعزعت وسقطت وحلّ محلّها ضبّاط كان همهم الأوّل الإطاحة بالمعالم الشكليّة للديمقراطيّات

بدا أخيراً أن الديمقراطية هي المطلب الاستراتيجي الذي تدور حوله معارك اليوم. يقال هذا جهراً وعلانية وبالحرف وتحتشد من أجله الملايين في الشوارع، وترفع في سبيله اليافطات وتدوّي الأصوات والهتافات. لم يكن الأمر هكذا من قبل، لم تكن الديموقراطيّة تستحق معركة. المعارك تقوم حول أمور وقضايا يتوّحد حولها الجميع، وتطال شرف الآمّة ومجدها ودينها، كما تتعلّق بالثأر من أعدائها والانتقام ممن خانوها.

لم يكن الدفاع عن حقّ الإختلاف والتعدد والانقسام والأفراد يستحق نضالاً. الأرجح ان هذا يعدّ، حتّى عهد قريب، من الآفات والأمراض والعلل. وحدة الأمّة واتفاقها على الهدف نفسه وتكافلها واندغامها كالبنيان المرصوص، وحدها تستحق القتال في سبيلها والنضال من أجلها أمّا ما يؤدّي إلى الفرقة والإنقسام فمكروه في الأساس، إن لم يكن ملعوناَ وشرّاً.

الديمقراطيّة التي تبنتها الأنظمة الكولونيالية كانت مثلها مثل الأنظمة، مريبة غير موثوقة. لذا لم يمر الوقت عليها حتّى تزعزعت وسقطت وحلّ محلّها ضبّاط كان همهم الأوّل الإطاحة بالمعالم الشكليّة للديمقراطيّات الكولونياليّة. ونصبوا مكانها توتاليّات تملي على الشعب عقيدته السياسيّة وتحرّم الأحزاب جرياً على الشعار المأثور(من تحزّب خان). لقد نصبت محلّ الديمقراطيّات الكولونياليّة طغماً تحكم باسم القوميّة وباسم الأمّة، فيما اعتبرت الدعوة الديمقراطية مشبوهة واستعماريّة.

الانتفاضات الأخيرة قامت بشكل أساسي ضد الأنظمة العسكريّة بكلّ ما مثّلته هذه الأنظمة، ضد خطاباتها السياسية أو تعليمها السياسي، وبالطبع ضد هياكلها ومبانيها الإداريّة والقانونّية والحكوميّة. الديمقراطيّة كانت الكلمة الفصل، في البداية تراءى كأن الحشود تجسّد في الشارع ديمقراطيّة من تحت، فيما بدت الحكومات المذعورة معلّقة في الفضاء. بدا مطلب الديمقراطية حاسماً وطارداً لسواه ومتفرداً، لكن مع الأيام ظهر أنّ الساحة تتسّع لأكثر من شعار ولأكثر من هدف واحد، بل ظهر أن الخطابات التي تتالت منذ عهود الإستقلال وما قبله، هذه الخطابات التي تواقتت من دون أي سياق تاريخي، اجتمعت بل وتراكبت وتراكمت، لكنها منذ ظهرت اختلطت وتشابكت بدون أن تتمرحل او تتحقّب، فقد ولدت خارج أي تاريخ وأيّ عصر، هبت من عصور شتّى ورؤى شتّى، وتلاقت بعيداً عن مواعيدها بل بعيداً عن أي زمن وأي ميعاد. لقد مرّت حقبات مديدة من البيات، لم يكن فيها أيّ تاريخ، ومع الإستقلال وأنظمة الطغم العسكريّة لم تعد هذه ان تكون سوى أصداء وأبواق.لقد وجدت رؤى تستند إلى التاريخ بدون حسّ تاريخي هكذا اتسع المجال ليخرج من تحت الأرض خليط من الخطابات النائمة جميعها يطالب بمكان تحت الشمس وحق في الوجود.

كان علينا أن نباشر كلّ شيء دفعة واحدة وفي الوقت نفسه، لم يبق أمامنا سوى التظاهر والجعجعة الأدبية والبروباغندا الخالصة التي تنتهي بتصنيم الألفاظ ونفخها.هكذا ينشأ أدب وفكر ببغاويّان يتعهدهما صغار المثقفين. نوع من دعاة رسميين، من شرطة ثقافة يعممون الخطاب الرسمي. لا نستطيع في حال كهذا أن نأمل بمستوى رفيع أو نقدي. لقد كان هؤلاء طوال الوقت وراء الدعاوة، وبالتأكيد تابعهم، عن جهل أوبراءة أو مطمع، أرتال من الدعاة الذين وسموا ببغاويتهم وتحجرهم الثقافة كلّها، فيما انصرفت القلّة التي حظيت بمستوى آخر أمتن وأكثر نقديّة، إلى عمل ثقافي بحت بعيداً عن كل ما يتصّل بالعامّ وبالسلطة والسياسة المباشرة.

كان أرباع المثقفين أو منتحلو الثقافة إيّاهم في كلّ العهود وفي كلّ المواقع أكثر حضوراً وسلطاناً. ليس في وسعنا أن نتباهى بمثقفينا أو نعتدّ بهم، فالإدقاع الثقافي كان دائماً من أكثر سماتنا بروزاً. السهولة التي تتمّ بها صناعة المثقفين، من أيّ مجال أتوا وفي أي حقل عملوا، سهولة مفرطة. نرى ذلك ماثلاً بأوضح صوره في رجالات الدولة وكادرات الأحزاب وحتّى في مجالات العمل الفكري والأدبي. هكذا نفهم الإنتكاسات التي انتهى اليها معظم الإنتفاضات.