الكاتب الأرجنتيني خورخي بورخيس الذي عشق "ألف ليلة وليلة".(أرشيف)
الكاتب الأرجنتيني خورخي بورخيس الذي عشق "ألف ليلة وليلة".(أرشيف)
الثلاثاء 31 يناير 2017 / 18:52

التغريب، أمس واليوم

حتّى تراثنا نفسه عدنا إليه عن طريق الغير، فالثقافة المحافظة العربية كانت تعتبر ألف ليلة وليلة في الثقافة الدنيا وتخصه بالعوام وسواد الناس وتراه ركيكاً عامياً، حتّى اكتشفه الغرب تحفة أدبية

تعود مسألة التغريب الى عهود قديمة. لا نستطيع بسهولة أن نضع بداية لها. قد يخطر لأحد أن يردّ البداية إلى الإحتلال الفرنسي لمصر. لكن في حال كهذه أين نضع صراع الشرق والغرب الطويل. أين نضع الحروب الصليبية مثلاً. أين نضع التدخلاّت الغربيّة في أقانيم الامبراطوريّة العثمانيّة. لابد أن هذا لم يكن بدون أثر ولا بد أنه مهّد لما تلاه وأرهص به. بيد أن التغريب لا يستحق هذا الاسم الا قبيل المرحلة الكولونيالية. قبيل الاستعمار الغربي كان الشرق انفتح على الغرب، لقد بدأ التقدم الغربي السياسي والعسكري والاقتصادي باهراً ولافتاً، بحيث لم تستطع الشعوب المجاورة أن تتجاهله فولدت تيارات غربية في تركيّا وايران، وحتى في أطراف عربيّة تغلغل هذا التأثير في الفكر السياسي والقومي وحتى في الفكر الديني.

يمكننا القول إننا الآن نعيش تحت انعكاس الغرب. لا نملك شيئاً مهماً أو ذا خطر في حياتنا بدون أن يتبيّن مصدره الغربي. لقد اقتبسنا عن الغرب نمط حياة كامل، بحيث يوجد الأصل الغربي في ثقافتنا لا الحديثة فحسب بل والسلفيّة أيضاً. نحن الآن نتأثر بالغرب في كل حقول ثقافتنا. إذا بدأنا بالأدب كما هو تقليدنا فنحن لن نلمح الغرب في ما نسميه اليوم بالحداثة فحسب، بل نحن سنجد جذوره حتّى في الأدب الذي لم يهجر الموروث. من أين وصل المسرح الشعري إلى أحمد شوقي ،الشاعر التراثي، لولا تأثير قراءته للمسرح الشعري الفرنسي، وكيف يمكن أن يولد الشعر المهجري لولا الأثر الغربي. وكيف يمكن أن تنشأ الحركة التشكيلية بكل أدوارها بدون هذا التأثير، وبالطبع لم يكن المسرح لولا ذلك، ولم تكن السينما، وبالتأكيد يمكن الكلام عن نمط حياة كامل استورد من الخارج: البيت والمسكن والمائدة وأساليب الزيارة والخروج والسهر والاحتفال. لقد اجتلبنا ما يخص اللباس والمعاش، البيبسي و الهمبرغر. ثمّة نمط عالمي يزداد تعميمه وشموله، ومن المؤكد أنّ قسماً كبيراً من البشريّة يشتركون في نفس المعاش وأساليب الحياة.

حتّى تراثنا نفسه عدنا إليه عن طريق الغير، فالثقافة المحافظة العربية كانت تعتبر ألف ليلة وليلة في الثقافة الدنيا وتخصه بالعوام وسواد الناس وتراه ركيكاً عامياً، حتّى اكتشفه الغرب تحفة أدبية وتعلّق به كبار من كتابه صار لهم أسماء وصيت عندنا كبورخيس وماركيز. لم تكن ألف ليلة وليلة يتيمة. ثمة أسماء أخرى ردها الغرب إلينا، ابن خلدون على سبيل المثال. بلغ بنا التغريب أن صرنا نحكّم الغرب في تراثنا ونحاكمه بصداه عنده. ليس هذا مأخذاً ولا سلبية فنحن في العالم وعلينا أن نعرف كيف نكون فيه .

ذلك لايعني أن التغريب ليس مشكلة، لولا أن المشكلة ليست قوميّة، كما يخطر فوراً للذهن. عالمية الثقافة ليست موضع سؤال فثمة دائماً حضارة سائدة ومهيمنة، بل ثمة حضارة شاملة. أستعيد هنا كلاماً للشيخ صبحي الصالح مفاده أننا جزء من الحضارة الغربيّة. مشكلة التغريب هي أنها قد تكون فقط صوريّة. قد لاتكون سوى مظاهر ولا تقوم بالتوليد وإعادة الإنتاج من داخلها. قد يتحول ذلك الى تبسيطات وإلى عناوين وإلى منسوخات سطحيّة، ثم إنّ الخطورة هي في إعادة قراءة الأشياء من هذا المدخل الضيّق.

قد يكون من ظواهر هذه الأمور بسط التاريخ الأوروبي مباشرة على تاريخنا وتطبيقه عليه. عند ذلك يغدو التاريخ القبلي للجزيرة العربيّة تاريخاً أوروبياً طبقياً مبنياً على الاقتصاد ويتحوّل الصراع الذي يسمّيه طه حسين(الفتنة الكبرى) إلى يمين ويسار وتطرّف يميني ويساري. هذا الخلط بين تاريخين وتخيل أن التاريخ الأوروبي نموذج التاريخ لا يجري على اليوم فحسب بل يتعدّاه الى الأمس القريب والبعيد. خطر يحيق بقراءتنا لتاريخنا المعاصروالقديم.

جاء في كتاب ألفه توماس باور وترجمه لدار الجمل رضا قطب بعنوان(ثقافة الإلتباس) أن السلفيّة الحديثة وهي تحمل على الغرب والتغريب،تملك في خلفيتها جذور هذا التغريب. قراءتها للنصّ المقدّس تنفي التعدد الذي يقوم عليه النصّ لصالح قراءة وحدانيّة لا تلتفت الى ثراء النص وتعدده. إنها مرّة ثانية القراءة التبسيطيّة ذات البعد الواحد .