الفيلسوف ميشال فوكو.(أرشيف)
الفيلسوف ميشال فوكو.(أرشيف)
الأربعاء 1 فبراير 2017 / 19:30

مبدأ المُغامَرة

فوكو كان يعرف أن أحداث ثورة الملالي الإيرانية، يصعُب تغيير كوارثها إلا أن معاينتها واقعياً وحسياً هو مبدأ المُغامَرة والاكتشاف

سُئل الفيلسوف الراحل ميشيل فوكو (1926- 1984)، من قِبَل المُحاور فارس ساسين، في عام 1979 بعد عشرة شهور من دعمه الصادم للثورة الإيرانية، عن السبب وراء هذا الدعم. وكانت إجابة فوكو مُستفزة، باردة إلى حد المرض. قال إن كل ما في الأمر أنه قرأ كتاباً قديماً لم يكن قد قرأه بعد، وهو "مبدأ الأمل" لأرنست بلوك. أيضاً دون كيخوته قرأ روايات فروسية ثم نزل إلى الواقع. فكرة كتاب "مبدأ الأمل"، أثارتْ فوكو، وهي تتحدث عن الرؤية الجماعية للتاريخ التي ظهرتْ في نهاية القرون الوسطى الأوروبية. هذه الرؤية هي إدراك البشر لإمكانية وجود عالَم مُغاير، ورفض أن يكون واقع الأشياء ثابتاً ونهائياً، والسعي لاكتشاف ثغرة داخل الزمن والتاريخ تتيح الانتقال إلى عالَم أفضل. أي أن فوكو كان يحلم برؤية تكرار التاريخ بأثر رجعي. وليس هناك مكان أفضل من متحف الشرق، لحفظ الحفريات التاريخية. آلة الزمن في سلسلة أفلام المخرج روبرت زيميكس "العودة إلى المستقبل"، تسمح للبطل بسفر في الزمن الماضي، والعودة منه إلى الزمن الحاضر. فوكو كان يعرف أن أحداث ثورة الملالي الإيرانية، يصعُب تغيير كوارثها إلا أن معاينتها واقعياً وحسياً هو مبدأ المُغامَرة والاكتشاف. مُغامَرة الإنسان الغربي، وهو يرى طفولة التاريخ الوحشية، لا سيما إذا كانت الرؤية لعين مُراقِب الجسد في تحولاته وانفلاتاته وعقابه أيضاً. أرشيفجي الجسد لا بد أن يكون هناك. ذهب ميشيل فوكو إلى إيران في زيارتين متتاليتين، مدتهما معاً، من أربعة إلى خمسة أسابيع.

لامس الأركيولوجي ميشيل فوكو الحفريَّة العيِّنة، وأدارها بين أصابعه. يفصله الآن عن الزمن الأوروبي أربعة قرون. إنه في القرن السادس عشر، أمام إرادة سياسية ودينية. ما كان الإيرانيون يبحثون عنه هنا، لا هو بالنظام السياسي، ولا هو بنظام الملالي. هذا الغموض هو ما أراده فوكو للثورة الإيرانية بينما الحقيقة الواقعية كانت تتجه بسرعة ووضوح لنظام الملالي. قناعة فوكو المُضْمَرَة، لو أردنا أن نسميِّ الأشياء بأسمائها، الإجرامية، العنصرية، هي أن أي شيء أفضل للثورة الإيرانية طالما لا تعتمد من قريب أو بعيد، شكل الدولة في النموذج الغربي، وإذا كان البديل هو فاشية القتل والدمار وكبت الحريات القرن وسطي، كما حدث بالفعل، فهو أفضل للإيرانيين من تقليد النموذج الغربي، أفضل لهم من نموذج الدولة. وإذا سُفِكَت الدماء بشكل مُحرج لضمير الفيلسوف الغربي بعد عودته من المُغامَرة، يقول بدمٍ بارد: ربما أخطأت في دعمي للثورة الإيرانية، لكن كان هناك شيء ما غامض، يستحق الدعم، ربما أُجْهِض قبل أن يُولد. خطاب الاعتراف بالخطأ مارسته المخابرات الغربية بعد هدم دول عربية كما مارسه فيلسوف الحفريات. المُحزن أن مثقفين عرب تعاطفوا مع مُغامَرة ميشيل فوكو الواقعية بحُجة السبر العميق النظري في مؤلفاته "تاريخ الجنون"، و"المُراقَبَة والمُعاقَبَة"، و"تاريخ الجنسانية". لم يجدوا الجرأة في فصل رأس ماله الرمزي العظيم عن مُغامرته الدون كيخوتية الحالمة، مع أنه وضع بين أيديهم كود الجرأة عليه، عندما أعلن سابقاً موت الإنسان.

سأل فارس ساسين سؤالاً مُشاكساً لميشيل فوكو. لماذا تأتي كلمات بعينها في حديثك عن إيران، كلمات مثل، الهَوْل، السُكْر، الوقار، الجمال، المشهد، المسرح، المسْرَحَة، المأساة الإغريقية، الروحانية؟ تلميح فارس ساسين إلى أن هذا فوكو آخر غير فوكو الصارم الأرشيفجي الجينيالوجي. يتهرَّب الفيلسوف من سؤال فارس ساسين. يسأل فوكو: ألا ترى أن كتاب "تاريخ الجنون"، هو كتاب غنائي؟ على العموم أنا لي سمعة الشخص البارد المتصلب، ولكن لا يجب الخلط بين مَنْ يتكلم، وبين موضوع كلامه، لا يجب الخلط بين ما نقوله عن شيء ما، وبين المعنى الذي نجعله للكلام عن هذا الشيء. كنتُ أفكك أو أحاول تفكيك بأكبر قدر ممكن من العناية، علاقات السُلطة. حاولتُ أن أبين كيف يكون لعلاقات السُلطة في الواقع، نوع من المنطق، وفي نفس الوقت، نوع من الرهافة، يمنحها القوة والهشاشة معاً. رأي فارس ساسين أن الإجابة تصلح لمفهوم علاقات السُلطة في كتاب "تاريخ الجنون"، لكنها لا تصلح مع الحالة الإيرانية. كما أنه من المُبالَغَة وصف كتاب "تاريخ الجنون" بالغنائي.