الأحد 5 فبراير 2017 / 20:00

ما قبل ترامب وبعده

حتى لو لم تكن صلاحيات القاضي، وسلطته الدستورية، أكثر أهمية من صلاحيات وسلطة الرئيس، فإن التقاليد السياسية، والآداب الاجتماعية، المتعارف عليها، والمقبولة في أوساط النخب الأميركية السائدة، لا تجيز التصرّف على طريقة ترامب،

ليس من الحكمة واللياقة أن يسخر رئيس أمريكي من قاض في المحكمة الفيدرالية في الولايات المتحدة، كما فعل دونالد ترامب. فصلاحيات القاضي، وسلطته الدستورية تفوق، في الواقع، صلاحية وسلطة الرئيس نفسه. وهذا ما دلّت عليه حقيقة أن القاضي المذكور أبطل قرار ترامب الخاص بحظر السفر، وأن كافة مؤسسات الدولة الأمريكية التزمت بقرار القاضي، وأوقفت العمل بقرار الرئيس، الذي وعدت إدارته بالطعن في الحكم.

وحتى لو لم تكن صلاحيات القاضي، وسلطته الدستورية، أكثر أهمية من صلاحيات وسلطة الرئيس، فإن التقاليد السياسية، والآداب الاجتماعية، المتعارف عليها، والمقبولة في أوساط النخب الأميركية السائدة، لا تجيز التصرّف على طريقة ترامب، الذي وصف القاضي ب"المدعو" ووصف قرار المحكمة ب"السخيف". وكان بهذا يصب الماء، من حيث لا يشاء، في طاحونة معارضيه، الذين حذّروا من نزعته الشعبوية، ولغته المبتذلة، بوصفهما مصدر خطر على الديمقراطية الأمريكية.

كان البعض، خاصة في أوساط الساسة والمحللين الأمريكيين، قد توقع أن يصبح سلوك ترامب "رئاسياً"، وأن يتسم بالتحفّظ والحذر في اختيار الألفاظ، والتعبير عن المواقف، بعد إقامته في البيت الأبيض. وثبت أن هذا التوقع في غير محله.

وإذا كان في حادثة حظر السفر، وما اقترن بها وأعقبها من تداعيات سياسية ودستورية، وإعلامية، ما يدل على حجم ما يجابه ترامب من تحديات ومشاكل في الداخل والخارج، فإن أهم وأخطر تلك التحديات والمشاكل لم تنل ما تستحق من اهتمام، وأعني بهذا تحفظات بعض أقطاب اليمين الأمريكي نفسه إزاء سياساته التجارية، وعلاقاته بالشركاء الأوروبيين، وموقفه من الهجرة.

وهذا ما دلتنا عليه تصريحات نقلتها صحيفة الإندبندنت البريطانية عن محامي الأخوين شارل وديفيد كوخ، انطوت على انتقادات مُبطّنة لترامب، ناهيك عن التذكير بتصريحات سابقة لأحد الأخوين جاء فيها إن منع المسلمين من دخول أمريكا يشبه ما كان يمكن أن يفعله هتلر في ألمانيا النازية. وبالنظر إلى مكانة الأخوين كوخ، في السياسة والاقتصاد الأميركيين، ينبغي أن تؤخذ انتقادات كهذه على محمل الجد، تماماً. فهما من أهم وأكبر أقطاب اليمين الأمريكي، وممولي الحزب الجمهوري، ومن أهم وأكبر أصحاب المليارات في الولايات المتحدة.

وإذا صدقنا جين ماير، مؤلفة كتاب "مال أسود"، الذي اعتبرته النيويورك تايمز من بين أفضل عشرة كتب صدرت في أمريكا في العام الماضي، فإن نشاط الأخوين كوك، منذ ستينيات القرن الماضي، في إنشاء مؤسسات بحثية، ومنابر إعلامية، وتمويل أنشطة حزبية، وتنظيم مؤتمرات وندوات، قد أسهم في تعزيز وصعود اليمين الأمريكي الجديد.

بمعنى آخر، إذا كانت أوساط متنفذة في اليمين الأمريكي تجد، الآن، صعوبة في الدفاع عن جانب من سياسات دونالد ترامب، فهذا يعني أنه يجابه مشكلة مع معسكره الأيديولوجي، وعلى الأقل مع أقطاب من الوزن الثقيل في المعسكر المذكور.

وتكفي، في هذا الصدد، الإشارة إلى أمرين:
أولاً، في موضوع التجارة الدولية، والتبادل، والسوق، يستند اليمين في سياسته (وخطابه) على فرضيه أن الكل يربح، وأن التبادل التجاري الحر لا يعني أن ربح طرف ينبغي أن ينجم عن خسارة طرف آخر.

وبقدر ما يتعلق الأمر بترامب، فإن سياساته تبدو وكأنها لا ترى في التبادل التجاري، والتجارة الدولية إلا ربحاً صافياً أو خسارة صافية لأمريكا. وبهذا المعنى فإن فرض الضرائب، وممارسة الضغوط على الشركات العاملة في الخارج، واستثمار أموال باهظة في البنية التحتية، بطريقة غير مدروسة، وأخيراً، افتعال مجابهة مع الصين، كلها أشياء تبدو مثيرة للقلق.

ثانياً، وما يصدق على التجارة الدولية يصدق على التحالفات والاستراتيجيات السياسية والعسكرية، أيضاً. فالدفاع عن أوروبا يندرج في باب مصالح الأمن القومي الأمريكي، في المقام الأوّل. ولكن ترامب يبتذل هذه الحسابات ويطالب دول أوروبا الغربية، وكذلك اليابان، بدفع المال مقابل الحصول على خدمة الحماية. ولكن حتى أكثر دعاة الرأسمالية الأميركية عداء للقيم، يدرك المخاطر الكامنة في تحويل القوّة العسكرية إلى قوّة مرتزقة للإيجار.

لم تمر ثلاثة أسابيع، بعد، على انتقال ترامب إلى البيت الأبيض، ولكن حتى في هذه الفترة القصيرة، ما يكفي من الشواهد للتدليل على حقيقة أن أمريكا بعد ترامب لن تشبه في جوانب كثيرة ما كانت عليه قبله.