توماس باور.(أرشيف)
توماس باور.(أرشيف)
الثلاثاء 7 فبراير 2017 / 19:21

ثقافة الالتباس.. التعدد في الإسلام

ليس التعدد فقط في الدين. إنه في المجتمع كله، هو أيضا خاصيّة عربيّة، لاسيّما في الأدب، فالأدب العربي والشعر، بوجه خاصّ، لم يتحوّل حتّى في حداثة الإسلام إلى داعية أو مبشّر ولم يتجّه إلى الوعظ والإرشاد

كتاب توماس باور المستشرق الألماني(ثقافة الإلتباس، نحو تاريخ آخر للإسلام) جديد بكل معنى الكلمة. هو لا يسيرعلى خطى المستشرقين الذين يذهبون غالباً الى الماضي، الذي يمحصونه ويراجعون وقائعه، يحققونها ويحاكمونها على ضوء مناهجهم المعاصرة. توماس باور يعرّض الإسلام لتحليل بنيوي يشمل الى جانب العقيدة الأدب والفكر. هذا التحليل يقوم على ركن أساسي هو(التعدد)المصطلح ليس من العقيدة ولا من التراث، إنه من أفكار العصر ومن دارجه. التعدد هو أساس في الخطاب الغربي الديمقراطي، الذي الإسلام في آرائه آحاديّ النظرة، غير قابل للرأي الآخر، غير مستعدّ للحوار. هذا النظر الذي يحتج عادة بالفرق المتشددة ، ليس في نظر توماس سوى جهل بالأسلام وقراءة مضادّة له،هي عينها النظرة التي حملها الغرب نفسه حتى القرن التاسع عشر. هي عينها الحداثة التي اعتنقها والآن يلقيها بشرط انعكاسي على الإسلام. إننا امام حلقة من السجال التاريخي بين الشرق والغرب. بين الإسلام والغرب، ومهما كان لنا من رأي في هذه المناظرة، فإننا لا نشكّ أن توماس باور مجادل جيد، وانّه بحججه المستقاة كلّها من الغرب المعاصر يخوض مع الغرب دفاعاً عن الإسلام، يقلب فيه حججه عليه. مع ذلك ليس توماس مسلماً بالولادة أو الاعتناق. لذا تبقى المناظرة في أساسها غربيّة.

ماهو التعدد في الإسلام؟ إنه في رأي توماس خاصية إسلاميّة بقدر ما هي عربيّة. التعدد في أساس الدين. لايعني ذلك فقط تقبل الإسلام للمسيحّية و اليهوديّة وتعايشه التاريخي معهما. بل يعني أيضا العقيدة نفسها التي نزلت، بحسب النص الديني، على سبعة أحرف، هذه ليست، كما ذهب البعض، لهجات قبليّة، بل هي قراءات متعددة. القراءات السبع أجزاء من النص القرآني نفسه. سبق الإسلام بذلك بزمن طويل جداً الثقافة الغربية التي ارتكزت حداثتها كما يذهب ديكارت على أحاديّة المعنى.

ليس التعدد فقط في الدين. إنه في المجتمع كله، هو أيضا خاصيّة عربيّة، لاسيّما في الأدب، فالأدب العربي والشعر، بوجه خاصّ، لم يتحوّل حتّى في حداثة الإسلام إلى داعية أو مبشّر ولم يتجّه إلى الوعظ والإرشاد. بكلمة واحدة لم يكن الشعر تابعاً لسلطة أو إيديولوجيا. لم يناضل ولم يلتزم وكانت حريته من شروطه التي أجمع عليها الكلّ، واحترمها حتّى رجال الدين، فكان بين الفقهاء وكتاب الموضوعات الدينيّة من ينظم الشعر، ولا يستحي من أن يتناول فيه موضوعات شائعة في الشعر، وإن تكن مخالفة للدين فكان بين الفقهاء من ينظم في الخمريّات او الغزل أو الغلاميّات.
كان تعدد المعنى يظهرفي المفردات التي تعني، في آن معاً، الشيْء وعكسه وهذه في العربيّة أوفر منها في بقيّة اللغات، اللعب بالأضداد استهوى العرب فأخرجوها في قواميس وفي أشعار ونصوص نثريّة.

نزل القرآن على سبعة أحرف وذلك كان متوائماً مع اللغة التي احتذى بعض شعرائها الكتاب المقدّس فنظموا في نص واحد سبعة نصوص يقرأ بعضها من الشمال الى اليمين، ويقرأ بعضها من روؤس الكلمات في العمود الأيمن، أو من روؤسها في العمود الأيسر. هكذا يتسع النصّ لسبعة نصوص مختلفة المواضيع، منها ما يتناول النحو أو العروض.

لم يرق ذلك اللعب اللغوي والبلاغي للغربيين الذين اطّلعوا عليه فاعتبروه أجوف ومتدنيّاً وسمّوا عصره عصر الإنحطاط، وتابعهم العرب على هذا الرأي، فنظروا إلى هذا الجهد وإلى هذا التفنن نظرة مزدرية. لقد نظروا بعين الحداثة الغربيّة التي لا تقرّ مجانية الأدب، في حين أن ما بعد الحداثة تجاوزت هذه النظرة واتسعت للكيتش أي المبتذل، وللهو والمجانيّة والتعدد في الأزمنة والمواضيع إن التعدد في المعنى، بل واللعب بالمعنى يجعلان التراث العربي أقرب إليها.

كتاب توماس باور ينظر إلى الثقافة الماضية من موقع نقد الحداثة الغربيّة ومقابلتها بالاحتمالات الكامنة في الثقافة العربيّة. إنّه نوع من نقد النقد، لذا لا نتفاجأ حين يصل الكاتب الى العلمانيّة، الموضوع الراهن. ليس الإسلام ولا الثقافة العربيّة بعيدين عن العلمانيّة.لم تعرف النظم الإسلامية ثنائيّة الحاكم والفقيه ولا استتباع الدولة للأكليروس، وفي كتب السياسة لإبن لباتة والماوردي وابن خلدون نجد نظريّات ترد التاريخ إلى عوامل دنيويّة. قصائد المديح التي كانت تنظم في الملوك والحكّام، كانت تحيي فيهم العزم والحزم والقوّة أي صفات سياسيّة، هي ذاتها الصفات التي طلبها ميكيافيلي في الحكام.