صورة رمزية.(أرشيف)
صورة رمزية.(أرشيف)
الأربعاء 8 فبراير 2017 / 18:54

عطايا الماء

الورقة البيضاء والقلم هما الاختبار الحقيقي لقيمة العِبَارات، إذ أحياناً تتطلب العِبَارات مزيداً من السباحة في العقل قبل الكتابة

 في الحمَّام، وأثناء تدفق صنبور المياه فوق رأسي، قلتُ في نفسي عِبَارة يُفهم منها أنني مُقبل على تغيير ثوري فيما يتعلق بحياتي الشخصية والمِهَنيَّة. كانت العِبَارة تعني أشياءً كثيرة، لكنْ مع الأسف ليس شيئاً بعينه، وطالما أن الأهداف كانت كثيرة مُتضاربة، وطاقة القدرة على التحقيق لا قِبَل لها بهذا الشتات، فلم آخذ العِبَارة على محمل الجد، وبدلاً من التفكير في تخفيض مضمون العِبَارة، وجعله ممكناً، فكَّرتُ بعزاءٍ أن العِبَارات لا تُؤخذ بأماكن ولادتها الأولى، وأن قيمة عِبَارة ما ستولد بعد ذلك عشرات المرات عبر الصقل والصوغ والتهذيب، إلى أن تصل لاكتمالها النهائي، وهي بهذا ستكون معزولة بعيدة عن مكان ولادتها الأولى، خالدة بصوغها النهائية في العقول والقلوب والزمن، وتبقى معرفة مكان الولادة الأولى، وهو مكان قد يهم المبتدئين والهواة الأماتور غير المتضلعين في صوغ العِبَارات، كنوع من فتح الشهية، أبرتييف، جر رِجْل، قيمة ثانوية لا تُضاف إلى قيمة العِبَارة النهائية إلا في سياق السيرة الذاتية للعِبَارة، أو بالأحرى في سياق السيرة الذاتية للكاتب، وهما سيرتان قابلتان للتنافر والتضاد، وقابلتان أيضاً للتناغم والانسجام.

فكَّرتُ أنني من نوع الكتَّاب الذين يحيون حياةً فقيرة على صعيد الروح والجسد قياساً بكتاباتهم. أفكِّرُ في بورخيس وبيسوا ودوستويفسكي، أقول: حياة فقيرة على صعيد الروح والجسد، لكنها حياة عميقة ثقيلة كالرصاص، ومع هذا فالنوع الآخر هو فردوس التمنِّي، وجِهة الحلم. أفكِّرٌ في رامبو ونيتشه وفولفجانج أماديوس موتسارت، النوع الراقص، الخفيف، الروماني بمتوسط عمر قصير. قلتُ: الحب كله نعيم. كما قالت سيدة الشرق، وإن كل كاتب يتذوق مرة على الأقل حلاوة النوع الآخر، حتى على مستوى الدراسات الجمالية، هناك جيرار جينت الذي يحجب بقسوة المنهج البنيوي سيرة بروست الذاتية، مُفضِلاً عليها سيرة عِبَارات بروست، وهناك أيضاً جان إيف تادييه الذي يمزج السيرتين معاً، سيرة عِبَارة بروست، وسيرة الكاتب بروست.

في المطبخ، كان الميلاد الثاني للعِبَارة، بمثابة نصرعظيم، مع مثلث بيتزا مارجريتا من مخلفات عشاء الأمس، وقهوة قوية سوداء بقطرات من كونياك الكورفوازيه، وزجاجة مياه معدنية صغيرة، وسيجارة جيتان فرنسية بأوراق الذرة الصفراء.

دخلتُ غرفة المكتب، وجلستُ أمام الأوراق البيضاء. الورقة البيضاء والقلم هما الاختبار الحقيقي لقيمة العِبَارات، إذ أحياناً تتطلب العِبَارات مزيداً من السباحة في العقل قبل الكتابة. للمرة الثالثة كانت عِبَارتي ترتبط بالمياه، في الحمَّام، وفي المطبخ، والآن في غرفة المكتب. ولم تعطني الصورة المجازية الخاصة بسباحة العِبَارات في العقل تحديداً مُطلقاً، هل هي في حوض سباحة؟ أم في نهر؟ ومن خبرتي الطويلة في صوغ العِبَارات أقول: لا يؤثر هذا الارتباط الغامض أدنى تأثير على صوغ العِبَارة، بل قد يكون هذا الارتباط هو المُعطِّل الأساسي الذي يقف حائلاً بين الكاتب وعِبَارته، والذي أيضاً لا غنى عنه لكل كاتب، وما الصورة المجازية إلا ضباب يحجب الرؤية.

فكَّرتُ أن عِبَارتي الثورية كانت تتعلق بحياتي الشخصية والمِهَنيَّة، فعلى صعيد الحياة الشخصية، وعلى حد علمي، وحسب الاستخدامات الفسيولوجية، لم يكن في نيَّتي تخفيض كميَّات الماء التي يحتاج إليها جسمي، وهذا بفرض التسامح مع عِبَارة التغيير الثورية التي لن يستقيم معناها الراديكالي الجذري، إلا بمنع الماء عن الجسم منعاً نهائياً، أو زيادته زيادة لا نهائية، وكذلك على صعيد المِهْنة، فلا توجد أية روابط بين الماء والمهنة، اللهم إني قرأتُ في زمن قديم "موبي ديك" لهيرمان ميلفيل، و"العجوز والبحر" لإرنست لهمنغواي، وهما عملان على صلة قوية بالماء. أمّا ما قمتُ به للتسلية في صيفين دراسيين متتاليين منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وهو الجلوس على حوض سباحة من التاسعة صباحاً حتى الثالثة ظهراً، لمنع حالات الغرق نادرة الحدوث، لكنها حدثتْ مرة، وظل شبح تكرارها يُخيم على مستقبل أحد أشهر حمَّامات السباحة في حلوان الحمَّامات، الضاحية الخجول التي سُميتْ باسم حمَّاماتها الكثيرة، مما جعل المسؤولين عن حمَّام السباحة، وضع أربعة غواصين بمقاعد عالية، على النصف الذي يصل فيه عمق الحوض إلى ستة أمتار. كان حمَّام السباحة يتدرَّج من عمق نصف متر ليصل إلى ستة أمتار. أقول: إن ما قمتُ به في شهور الصيف الثلاثة لعام 1980 وعام 1981، لا يفيد إلا في قصر سباحة العِبَارات لديّ على حوض السباحة فقط، وإقصاء النهر والبحر من حساب الاحتمالات، وهو إقصاء يدعو إلى خيبة الأمل، وكأنّ تراتب قيمة العِبَارات يتوقف على سعة الماء ولا محدوديته، ورغم أن فُرَص نجاة العِبَارات من الغرق أكبر في حالة حوض السباحة عنها في النهر أو البحر، إلا أن شرف غرق وضياع العِبَارة في النهر والبحر أفضل من إنقاذ هزيل لا تتعدىّ حدوده مستطيل الحوض.