المفكر إدوارد سعيد.(أرشيف)
المفكر إدوارد سعيد.(أرشيف)
الخميس 9 فبراير 2017 / 17:24

حول الوصاية الأخلاقية والسياسية

نحن أمام "وصاية أخلاقية" زائدة عن الحاجة مصدرها "النائب العام" هذه المرة، وصاية تفترض سلفاً قصور الوعي لدى المجتمع، وهو ما يدفع "النائب العام" لتقمص المجتمع والقراء والعائلة والمدرسة والتصرف باسمهم جميعاً

في منتصف التسعينات من القرن الماضي، وصل ضابط من الأمن الفلسطيني برفقة دورية من الشرطة الى المكتبة الصغيرة في "شارع رُكَب" وسط رام الله وسأل عن كتب لشخص اسمه "ادوارد سعيد"، كانت مهمة تلك الدورية هي جمع ومصادرة مؤلفات "ادوارد سعيد" من مكتبات الضفة الغربية، وهو ما فعله الضابط.

تساوقت غارة الدورية التي كان تحمل أمراً صادراً عن مؤسسة رسمية فلسطينية مع حملة إعلامية شاركت فيها المؤسسة الإعلامية الرسمية حيث ترددت على أمواج "الإذاعة الوطنية" جملة: " من أنت يا ادوارد سعيد!؟".

كانت تلك بداية غير موفقة على نحو بائس لنهج السلطة الناشئة المنبثقة عن منظمة التحرير الفلسطينية، والمكلفة" بإنجاز الاستقلال الوطني" لفرض وصايتها السياسية على المنجز الثقافي الفلسطيني.

ولكن تلك الحملة الشعبوية لم تستغرق وقتاً طويلاً قبل أن تتحول الى فضيحة، حيث جرى استخدامها كنموذج يطرح لوصف وتوضيح جهل السلطة وأميّة بعض القائمين على القرار فيها.
كان ادوارد سعيد، الذي قدم نقداً قاسياً لاتفاقية أوسلو وللقيادة السياسية الفلسطينية، قد وصل رام الله والتقى مع مثقفيها وطلاب جامعة بير زيت، وتجول في شوارع "وسط البلد" وتغدى برفقة "ابراهيم أبو لغد" في مطعم شعبي صغير.

سعيد الذي لم يهادن المؤسسة الرسمية الأمريكية وحاكم فكرة الاستشراق نفسها في واحدة من أهم المداخلات الفكرية، كما حلل بعبقرية دور المثقف وعلاقته بالسلطة، وقدم للفكر الإنساني مساهمات وضعته بقوة ضمن طليعة مفكري الإنسانية في القرن العشرين، والذي قدم نموذجاً استثنائياً للمثقف الفلسطيني الشامل، بدا مصدوماً تماماً من شراسة الحملة، ولكن فكرة مصادرة كتبه في فلسطين سببت له الحزن.

عندما تسلمت حماس السلطة بعد انتخابات 2006، كان ضمن القرارات المبكرة لوزير التعليم الذي عينته، وهو نسبياً أحد "المتنورين" في صفوفها، سحب وإتلاف كتاب "قول يا طير" الذي جمعه وحققه كل من الدكتور "شريف كناعنة" والدكتور "ابراهيم مهوي". أسباب الوزير و"جماعته" كانت " احتواء الكتاب على ألفاظ وحكايات تخدش الحياء العام"، طبعا سيبدو هذا السبب فاجعاً حين نتذكر أن الكتاب نفسه هو جمع وتوثيق الحكايات والأمثال الشعبية المتداولة في البيوت الفلسطينية عبر مئات السنين، أو كما أشار أحد الكتاب "حكايات الجدّات"، بحيث اتخذ الأمر، فيما يشبه "كوميديا سوداء"، شكل اتهام مفتوح ل"جدّات الفلسطينيين" بالعمل على "خدش الحياء العام".

كتاب "قول يا طير" كما هو معروف محصلة جهد كبير من البحث استغرق سنوات طويلة في جمع وتوثيق التراث الشفوي الفلسطيني المهدد بالاندثار، والذي حافظ ووثق اللهجات والقصص والحكايات والأغاني والأمثال، وظهر باللغتين الانجليزية والعربية وجرى، في مبادرة لافتة، توزيعه على مكتبات المدارس. وزير حماس "المتنور" في حينه، قبل الانقلاب في غزة، قرر أن يسحب الكتاب ويتلفه وهو ما جرى فعلاً.

في الحالتين، مطاردة كتب "ادوارد سعيد" وإتلاف كتاب "قول يا طير"، تصدى المجتمع المدني الفلسطيني بمؤسساته ومثقفيه للقرارين، ولفكرة "الوصاية السياسية" لبعض متنفذي منظمة التحرير و"الوصاية الأخلاقية" لجماعة "الاخوان المسلمين"، رغم حملات "الغوغاء" التي رافقت القرارين.

سوق المثالين السابقين جاء للإشارة والاستدلال، وليس للمقارنة، لقرار النائب العام الفلسطيني بمصادرة رواية لكاتب شاب صدرت عن "دار المتوسط" في ميلانو في طبعة عربية ودولية، وجرى طباعة نسخة فلسطينية منها لتفادي عرقلة وصول الكتاب الى فلسطين، القرار تضمن اعتقال موزع الرواية والتحقيق معه ومع الكاتب، لأن النائب العام، او أحد معارفه، يرى في الرواية ما "يخدش الحياء العام ويتنافى مع تقاليدنا" إضافة الى أنه "يرى" أنها خطر على الناشئة...إلى آخر هذه الديباجة.

مرة أخرى نحن أمام "وصاية أخلاقية" زائدة عن الحاجة مصدرها "النائب العام" هذه المرة، وصاية تفترض سلفاً قصور الوعي لدى المجتمع، وهو ما يدفع "النائب العام" لتقمص المجتمع والقراء والعائلة والمدرسة والتصرف باسمهم جميعاً.

لن أتطرق لسذاجة فكرة المصادرة في زمن تدفق المعلومات، ولا لعجز أجهزة السلطة عن تطبيق قرار "النائب العام" في فلسطين، وفي الضفة الغربية تحديداً، حيث لا يستطيع النائب العام نفسه التنقل بين الحواجز الاحتلالية والدخول أو الخروج من البلاد دون موافقة أمنية اسرائيلية. ولن أتطرق أيضا لحكم نقدي على الرواية، وسأحتفظ برأيي الذي أراه شخصياً في هذا الأمر.

ولكن الجوهري الغائب أو المغيب هنا هو ضرورة عدم الخلط بين مستوى الكتاب ومضمونه وبين حق الكتابة والنشر والتعبير.