السبت 11 فبراير 2017 / 20:09

نجيب محفوظ والسينما.. بماذا نفعته؟ وكيف أضرته أحياناً؟

أعطت السينما نجيب محفوظ وأخذت منه. ألهمته وأفادته وجارت عليه في آن. لفتت انتباه القاعدة الشعبية العريضة إلى أدبه لكنها لم تعرض لهم كل ما فيه من أفكار عميقة وقيم إنسانية راسخة وصور جمالية ساحرة، بل شوهته أحياناً. خلقت في أفلام عديدة نصاً مختلفاً في بعض جوانبه، وفي أخرى سعت إلى الحفاظ على روح النص المحفوظي وشكله، بقدر المستطاع.

قبل السينما كان محفوظ نصاً متاحاً لنخبة من القراء، يطالعونه ويعرفون قدره ويتتيمون به. وبعد السينما صارت أعماله مطروحة للنقاش على المقاهي وفي الأسواق والمصانع والحقول وعلى المصاطب في ساعات السمر، وبات فتواته وحرافيشه وأبطاله الراسخين والإشكاليين، مثاراً للجدل والثرثرة. كل رجل يبحث عن نفسه في السيد أحمد عبد الجواد، وكل امرأة تضاهي نفسها بأمينة، وكل شاب يفتش في روحه ومساره في حياة كمال عبد الجواد الحافلة بالأوجاع والمسرات، وكل موظف يحاول أن يقنع نفسه بأنه ليس "حضرة المحترم"، وكل متعالم أو متثاقف يضع نفسه في مرآة أحمد عاكف، وكل حالم بالعدل يستدعي "عاشور الناجي"، وكل متصوف يسعى وراء عبد ربه التائه، باحثاً عن أصداء جديدة لسيرته الروحانية، وكل ثائر يجري وراء علي طه بطل "القاهرة الجديدة".

فرض محفوظ على نفسه قاعدة صارمة في التعامل مع السينما فاستراح وأرح. كان يقول دوماً: "أنا في كتبي ولست في الأفلام المأخوذة عنها، فمن أراد أن يعرفني جيداً فليطالعها ولا يكتفي بالفرجة عليها مبثوثة على الشاشات البيضاء". وبهذا أعطى فرصة لكتاب السيناريو أن يتعاملوا مع سرده الجميل وحواره العميق العامر بالحمولات الفلسفية والدينية والسياسية والاجتماعية، كيفما شاءوا. وحافظ بعضهم على محفوظ دون جراحة شاملة أو غائرة مثلما رأينا في "اللص والكلاب" التي أضيفت إليها أجواء صوفية كفضاء أوسع لمشهد سينمائي مفعمة بالحركة أو خلفية لا بد منها لربط المعاني والتفاعلات الإنسانية بسياقها العام، والذي لا يمكنها الانفصال عنه. وكم كان جميلاً، أن يحوي الفيلم شيئاً من شعر ابن الفارض، ينشده صوت رائع رائق يفضي إلى البكاء. فبينما يتقدم سعيد مهران إلى الشيخ علي الجنيدي بحثاً عن حل لأزمته، تتهادي إلى مسامعه ومسامعنا:

(يا حسرتي ضاع الزمان ولم أفز ... منكم أهيل مودتي بلقـاء
وكفي غراماً أن أعيش متيماً ... شوقي أمامي والقضاء ورائي)

في حقيقة الأمر فهناك مخرجون جاروا على النص المحفوظي وغيروا في بعض الشخصيات تغييراً جوهرياً، مثلما رأينا في "خان الخليلي"، حيث بدا عاكف أكثر ألفة وإنسانية وتواضعاً مما ورد في الرواية. أما التغييرات الكبرى والجارحة التي وقعت على روايات محفوظ وقصصه حوتها أفلام "الأكشن" لاسيما تلك التي أخرجها حسام الدين مصطفى، وكان يغازل فيها مباشرة جمهور "الترسو" المولع بالنزال المستمر بين الفتوات والمنتظر في لهفة حارقة الحضور الأخير الحاشد للحرافيش الذي يغير معادلات القوة لصالح مقاومة الظلم والانتصار للحق وإقامة العدل. كما بالغ بعض المخرجين، ولأسباب تجارية بحتة، في تكثيف حالات الجنس والغواية الواردة في أدب محفوظ، وبينما وظفها هو فنياً باقتدار في ثنايا العمل، عرضتها بعض الأفلام تجارة رخيصة، أو لقطات ساخنة تلهب الغرائز. ويعد فيلم "شهد الملكة" المأخوذ عن جزء من ملحمة الحرافيش، مثالاً صارخاً على هذا.

في كل الاحوال فإن السينما نص جديد، يعتمد عناصر إضافية على ما يهديه إليها السرد الروائي، ورغم أن نجيب محفوظ، لاسيما في أعماله الأولى، كان حريصا على وضع القواعد الشافية الكافية للسياق الذي يحيط بأبطال الرواية وكذلك على رسم تفاصيل دقيقة لملامح هؤلاء الأبطال، فإن هذا لا يمنع ما تفرضه الضرورات الفنية المرتبطة بالسينما من تعديلات على عالم محفوظ ونصه، بالإضافة والحذف، سواء للشخصيات أو المضمون الذي ينطوي عليه هذا النص. فإذا كانت الترجمة من لغة إلى لغة في الشكل الفني الواحد، لا يمكنها، مهما كانت احترافية المترجم وأمانته، أن تحافظ على النص كما ورد في لغته الأصلية، لاسيما من الناحية الجمالية، فإن من باب أولى أن يخلق الانثقال من شكل فني إلى آخر تغييرا بدرجات متفاوتة على النص الأصلي.

وكما أفادت السينما نجيب محفوظ فقد أفادها، ليس فقط من خلال قصصه ورواياته التي تحولت إلى أفلام مهمة، بل أيضاً من زاوية انتقال أديبنا العربي الكبير نفسه إلى عالم الفن السابع مباشرة، كاتباً للسيناريو ورئيسا لجهاز الرقابة على السينما. وهذه المرحلة أفادت محفوظ مادياً ومعنوياً. فالأدب لم يجلب له ما يجعله يعيش حياة كريمة وهو مجرد موظف في وزارة الأوقاف، فاضطر إلى أن يصبح "سيناريست"، وأخذته المهنة الجديدة وبرع فيها فكاد أن يترك الأدب إلى غير رجعة، حسب اعترافه في المذكرات التي نقلها عنه رجاء النقاش.

لكن هذه الإفادة امتدت أيضاً إلى ما هو أبعد من النقود، فمهارة كتابة السيناريو سطعت فنياً على روايات محفوظ اللاحقة، فأصبح الحوار فيها أكثر ألفة واقتراباً من اللغة المعيشة، دون أن يتخلى عن الفصحى السهلة أو "اللغة الثالثة" وفق اصطلاح النقاد، صار حواراً بين شخصيات من لحم ودم، يجري سخياً رخياً من دون عنت ولا عناء ولا افتعال. ولم يقتصر تأثير السينما الإيجابي على اللغة الحوارية عند محفوظ بل امتد أيضاً إلى الصورة. ويحتاج هذا إلى دراسات نقدية مستفيضة، يضاهى خلالها أدب محفوظ قبل اشتباكه المباشر مع السينما وبعده، لنكتشف تلك العلاقة المتبادلة، ظاهرة وخفية، معلنة ومضمرة، بين محفوظ والسينما.