الكاتب نجيب محفوظ.(أرشيف)
الكاتب نجيب محفوظ.(أرشيف)
الثلاثاء 14 فبراير 2017 / 20:31

سياسة نجيب محفوظ

نجبب محفوظ لا يدين للوفد بأي شيء، فليس في وسع الوفد أن ينتج أديباً في وزن محفوظ ولا سياسته قادرة على إلهامه

بحسب كثيرون، فإنّ السياسة في الأدب تبقى السياسة نفسها، أي دعوة وتبشير وتحريض وانحياز صرف بالإضافة الى إلشعارات والمبادئ. هناك من يتبع ذلك من الكتاب افتراضاً منهم أنّ النضال يقتضي ذلك، وأنّ الأدب لا يؤدي غرضه إلاّ بهذه الوسائط. هذا زعم لا يخدم الأدب ولا يخدم السياسة، فضلاً عن أنّه قد يضرّ الإثنين. ينشأ الأدب من الالتباس والاشتباه والتساؤل والنسبيّة، وهذه لا تتلاءم مع الصوت الضخم والقطع والمثال، كما إنّها لا تقبل الانحياز والتحريض والشعاراتيّة. لا يمكن للأدب أن يكون سلاحاً ولا بوقاً ولا دعاوة ولا نضالاً، جاز للأديب أن يكون ذا موقف، فإن ذلك قد يلهم النصّ وقد يسكن روحه وايقاعه وسياقه، إلاّ أنّه لا يطفو على سطحه ولا يشكّل مفاصله ودعواه.

أدب نجيب محفوظ بالنسبة لكثيرين غير سياسي، وهناك من يردّه الى نشأته الوفديّة ويدرجه هكذا في الظرف السياسي، والحقّ أن نجبب محفوظ لا يدين للوفد بأي شيء، فليس في وسع الوفد أن ينتج أديباً في وزن محفوظ ولا سياسته قادرة على إلهامه، فالسياسة العملية بما فيها من ملابسات لا تستطيع أن تخلق ملحمة أو تراجيديا أو كوميديا، وإنما يخلق كلّ ذلك التخييل السياسي، الذي هو ككلّ تخييل قادر على أن يجترح السياسة من الأدب، فيكون للسياسة عند ذلك قوام وروح وايقاع تعود جميعها إلى الأدب، فللأدب سياسته كما إنّ له فلسفته.

جعل نجيب محفوظ من السياسة أدباً، فإذا كنّا نجد التاريخ الفرنسي في أدب بلزاك، نجد بالنسبة ذاتها التاريخ المصري في أدب نجيب محفوظ وقد تحوّل إلى كوميديا كما هو في "ثرثرة فوق النيل"، أو تحوّل إلى تراجيديا كما في "اللصّ والكلاب".

في الرواية الأولى لا يخدعنا وجود المثقفين، فالمثقفون المتقاعدون شأنهم شأن الآخرين، هم هنا يحشّشون كالجميع، وبينهم مناضلون سابقون وأهل سياسة وبيروقراطيون، هم هنا يمارسون بطالتهم الفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّة بالتالي. هذه البطالة المجسّدة في التحشيش هي استقالة هؤلاء وفشلهم وتجوّف حياتهم وتفريغها من كل غرض أو هدف أو قيمة أو مبدأ، بل هي في الحقيقة خيانة كل هذه الأركان أو التخلي عنها وعن كل شيء يعطي أو يشكّل معنى لحياة الإنسان  لوجوده، بعبارة اخرى، إنّها الخيانة في أصل الأشياء وفي حضورها. السياسة هنا هي هذه الخيانة الجوهريّة وقد تحولّت إلى خمول وإلى إهمال للعالم والنفس، ما يتحول بدوره إلى تهريج وإلى عبث ولا معقول. السياسي هنا هو هذا الانتكاس الذي يغدو مع تراكم الخيانات، لا كوميديا سوداء فحسب، وإنما أكثر من ذلك، يغدو بلادة مستهترة، بل إجراميّة تقريباً. يتجلّى ذلك في تلك الأغنية التي يشترك فيها الجميع "الفلاّحة ماتت". هنا يغدو التلميح السياسي صريحاً فليست الفلاّحة المصريّة سوى الشعب المتروك تحت عبط وتخلّي الحكّام والمثقفين والنخب الخيانيّ.

انّها مصر، ولم يستطع أحد أن ينفذ في نقده إلى عمق النظام كما فعل نجيب محفوظ، بوسعنا القول إنه نقد راديكالي، بقدر ما هو أدب رفيع أظهر النظام السياسي في إطار مسرحيّة للعبث. ليست اللص والكلاب من نفس النوع. إذا كانت الكوميديا سوداء فإن هذه تراجيديا تكاد تشبه التراجيديا اليونانيّة. سعيد مهران لصّ باختياره لكنه ليس لصّاً عاديّاً، لقد أقنعه صحافي مثقّف أن هذا من حقّه وأنّه هكذا يعيد الحقوق إلى أصحابها، فهو هكذا يستجيب لشريعة مثلى. لكنه يجهل، مثله مثل أوديب، أين تكون الشريعة، وأين يكون القدر، ومثل أوديب لا يعرف ماذا يحيك له القدر. لقد دخل إلى السجن طالب حقّ، وفي ظنه أنه يقيم العدل، كما حسب أوديب أنه فعل حين فكّ لغز أبي الهول وأجهز هكذا عليه، لكن القدر بيّت له خطّة أخرى. لقد تواطؤوا جميعاً عليه. معلّمه الصحافي الذي ترقّى في رعاية النظام، وصار مدافعاً عنه، زوجته التي هجرته. وصموه جميعاً، إنّه الضحيّة التي يجرّمها الجميع كما كتب جيرار عن أوديب، يجرّمها الجميع وتجرّم نفسها. في هذا لم يكن كأوديب. لقد أدان الجميع بالخيانة، وحاسبهم عليها، ما أدّى إلى سقوطه ضحية حقيقيّة، في نظره على الأقّل ونظر الغانية التي وحدها عطفت عليه. تواطؤ الطبقة الجديدة وخيانات جماعاتها هي ما يخرجه محفوط في شكل تراجيديا تتهم النظام والطبقة الصاعدة بالخيانة.