الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو.(أرشيف)
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو.(أرشيف)
الخميس 16 فبراير 2017 / 19:30

عن الدولة الواحدة وتبديد الإرث

نتانياهو بدوره راجع دروسه جيداً قبل التوجه إلى واشنطن، كان يأمل أكثر بكثير من "الكثير" الذي حصل علي

محللون كثر يسعون بدأب ويأس خلف "تغريدات" الرئيس الأمريكي الجديد على حسابه في تويتر، حيث يتحصن في موقعه الشخصي وحيداً باسمه المجرد ويطلق نيرانه مثل قناص أهوج عل المارة والطيور وستائر الجيران وكل ما يتحرك في الخارج، أجهزة المخابرات التي لا تتوقف عن تسريب فضائح كان ينبغي اغلاق الأدراج عليها، "مؤسسات حقوق الانسان" "اليسارية" التي لا تحب أميركا أو في الأقل لا تحافظ على مصالح البلاد، "المسلمين" الذين يدفعون عبر المطارات والحدود مجموعات من "المتطرفين" متنكرين بملابس "المهاجرين"، "اللاتينيين الكاثوليك" الذين تدفعهم الجارة الجنوبية الفقيرة عبر الحدود ليسرقوا فرص العمل والخبز من أفواه الأميركيين والكعك المحلى من إفطار اولادهم، "الصين" التي تسرق كل شيء تقريباً ولا تعطي شيئا بالمقابل، "نوردستروم" شركة البيع بالتجزئة التي توقفت عن شراء الملابس التي تصنعها "ايفانكا"...

السعاة خلف بناء شبكة من التوقعات لتحرك "دونالد ترامب" يواصلون قراءته معتمدين على قواميس ومفردات ودلالات وإشارات تم الاستغناء عنها وإرسالها الى القبو، و ولذلك ستبدو أي قراءة على الضوء القديم، في الكتاب القديم، أو البحث عن دلالات وإشارات للتوصل الى المعنى المضمر خلف كل هذا نوعاً من العبث.

التشوش في قراءة الاتجاهات، لا يعود لتعقيدات القضية أو استراتيجية ما تعتمدها الإدارة الجديدة في البيت الأبيض، بقدر ما يعود الى اللغة الجديدة التي يتحدثون بها هناك، والتي لا تخلو من ارتجال وفجاجة يتسم بها الرجل.

"ترامب" يقرأ على ضوء "ترامب" فقط، عندها سيبدو بسيطاً وساذجاً وفجاً وهشاً على نحو عدواني. لقد خسر البند الأول في جدول أعماله، خسر معركته مع المهاجرين، صحيح أنه اعتقل حتى الآن في حملات مطاردة تتواصل في أكثر من ولاية حوالي 600 منهم، ولكنهم أوقفوا القرار في القضاء ورفضوا استئنافه، وعليه أن يعيد صياغته وتقديمه من جديد.

الجدار على حدود المكسيك، أيقونة حملته الانتخابية، اتضح أن تكلفته ليست "12" مليار دولار وستتجاوز ال "21" مليون دولار حسب تقرير وزارة الداخلية، ولا يبدو أنهم في المكسيك سيساهمون في التكلفة.
مستشار الأمن القومي، الموقع الأهم في أي ادارة أمريكية، قدم استقالته اثر اعلان فضيحة الاتصالات مع السفير الروسي، وبعد أن ضلل نائب الرئيس و"فقد ثقة الرئيس" الذي اختاره قبل أن يقبض راتب الشهر الأول.

وزير العمل، الذي من المفترض أن يمرر حلم الوظائف الجديدة وفرص العمل للأمريكيين، اعتذر عن المهمة وهبط من الحافلة قبل أن يتجاوز عتبة الكونغرس حيث تنتظره اللجنة التي ستعتمده.
يمكن مواصلة سرد سلسلة قياسية من الاخفاقات ونكث الوعود وسوء التقدير وانهيار المصداقية والثقة قبل اغلاق الشهر الأول لوصول الرجل الى المكتب البيضاوي في العشرين من يناير/كانون الثاني الماضي.
لقد بدأ ينزف قبل احتفال التنصيب وقبل مصافحة "أوباما"، وبينما ذهب الأخير ليتزلج على الماء في اجازة عائلية كان "ترامب" يواصل اخراج آلته الحاسبة للعالم ويضع أرقاماً وتكاليف لم تحصل أمريكا على مردود مناسب منها، لنأخذ مثلاً عشرات مليارات الدولارات التي أنفقتها اميركا في العراق،"وانظروا على ماذا حصلنا"، لقد قطع الإيرانيون شط العرب وأخذوا الكعكة.

لعل خطورته تكمن هنا، في سلسلة الاخفاقات الداخلية المبكرة التي مني بها خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، والتي عززت حاجته لانجاز ما، سواء في الملف النووي الإيراني إو الملف الفلسطيني.
مخاوف الإقليم من ايران، وهو قلق مبرر تماماً، يكاد يكون النقطة الرئيسية المشتركة التي يستطيع أن يجمع فيها حلفاء أمريكا في المنطقة، والملف الفلسطيني الذي يمكن أن يكون مفتاحاً لتحالفات جديدة، بكل ما يعنيه من تهميش لدور الفلسطينيين ومشروعهم الوطني لصالح اتفاق اقليمي واسع.

هذا الرجل بعثراته وادعائه هو الذي استقبل بنيامين نتانياهو أمس واستمع إلى تزلفه المبتذل في المؤتمر الصحفي في البيت الأبيض، وهو الذي ألقى "حل الدولتين" في سلة المهملات، بحمولته كاملة منذ القرار الدولي 181في العام 1947 وصولاً الى اتفاقيات أوسلو 1993 ومتاهة المفاوضات ومسيرة الدماء التي تبعتها إلى المؤتمر الصحفي في البيت الأبيض أمس.

تعامل ترامب مع الأمر بعقلية رجل أعمال متنفذ وغير محايد يحاول أن يعقد صفقة لصالح وكيله، صفقة ينبغي أن "ترضي الطرفين"، لذلك أجل "نقل السفارة" الى القدس، وطلب من "وكيله" التوقف مؤقتاً عن بناء مستوطنات جديدة، في انتظار أن يبعث بصهره "جاريد" الى المنطقة ليتمم الصفقة التي تركها مفتوحة. دولة أو دولتان، لا يهم ولكن عليها أن تتضمن أكبر عدد من الشركاء والمساهمين.

هنا لا يمكن اغفال التصريح الذي أطلقه الرئيس الاسرائيلي "رؤوبين ريفلين" عشية وصول نتانياهو إلى واشنطن، والذي تحدث فيه، للمرة الأولى، عن دولة واحدة يحمل فيها الفلسطينيون الجنسية الاسرائيلية!! فيما يشبه طلقة الرحمة على "حل الدولتين". "ريفلين" نفسه كان حذر المشاركين في مؤتمر هرتسليا 2015 من اختلال هوية الدولة مقسماً "الاسرائليين" الى أربعة أسباط؛ العلمانيين، المتدينين، الحريديم، القوميين المتدينين والعرب. والذي تبنى مؤتمر هرتسليا في العام 2016 اقتراحاته كاملة، يبدو انه قرر اختصار الطريق هذه المرة.

نتانياهو بدوره راجع دروسه جيداً قبل التوجه إلى واشنطن، كان يأمل أكثر بكثير من "الكثير" الذي حصل عليه، كان يعلم جيداً أن عليه تغيير نبرته تماماً، فهو لا يملك الآن مجموعات ضغط ليحاصر الرئيس الجديد، منطقة الضغط الوحيدة التي يمكن استثمارها هي العائلة، عائلة ترامب، وهذا ما فعله بالضبط.

سيبدو حل "الدولة الواحدة" ثنائية القومية براقاً كما كان "حل الدولتين"، وسيبدو "النضال" الفلسطيني داخل هذه "الدولة" ثنائية القومية مغرياً للكثيرين، خاصة عندما ننظر إلى الخبرة التي راكمتها الأقلية الفلسطينية في اسرائيل، وهو في النهاية وضمن شروط المساواة في الحقوق يشكل حلاً مثالياً، ولكن الأمر الآن لا يتعدى عملية دفن مشروع "الدولة الفلسطينية" وشرعنة الاستيطان وهي عملية قائمة رغم تأخر الاعلان عنها، أو البحث عن أفكار جديدة من نوع "أقل من دولة"، أو نظام "أبارتهايد" أو متاهة جديدة يتم خلالها تفكيك منظمة التحرير وإلغاء كل ما أنجز من خطوات سياسية أوصلت فلسطين إلى دولة مراقبة في الأمم المتحدة، ووضعت ملفات الاستيطان والاحتلال وجرائمه في متناول محكمة الجنايات الدولية، إضافة إلى إنهاء حركة المقاطعة المتنامية لدولة الاحتلال، وهي مكتسبات لا يجوز التفريط أو الاستخفاف بها في المرحلة القاسية القادمة.