كتاب "كاستيليو ضد كالفين".(أرشيف)
كتاب "كاستيليو ضد كالفين".(أرشيف)
الإثنين 27 فبراير 2017 / 20:14

الدولة الدينيّة في جنيف

يكفي أن ننظر حولنا إلى الدول المسمّاة دينيّة لنتأكّد انّ الحقّ ليس من هذا العالم وأن دولة الله ليست في هذا العالم، حتّى ولو قام عليها أتقياء وأفاضل ومصلحون

ربمّا يحلم كثيرون بالدولة الدينيّة باعتبارها دولة الله، وليس بالطبع من لا يفضل دولة الله على دول البشر، البشر الضعفاء الأنانيين النفعيين الذين يؤثرون مصالحهم الخاصّة على كلّ مصلحة ولو كانت للمجتمع كلّه. يكفي أن ننظر حولنا لنتأكّد من ذلك. لكن هل الدولة الدينيّة هي حقّا دولة الله؟. يكفي أن ننظر حولنا إلى الدول المسمّاة دينيّة لنتأكّد أنّ الحقّ ليس من هذا العالم وأن دولة الله ليست في هذا العالم، حتّى ولو قام عليها أتقياء وأفاضل ومصلحون، فالدولة ليست معبداً وليست يوتوبيا، والسياسة ليست جنّة للمثل ولامباراة للفضائل. إنّ لها ديناميّتها الخّاصّة وتقنيّاتها ومبانيها وقواعدها ومفهومها وذلك بطبيعة الحال لا ينتمي بالضرورة الى الأخلاق والمثل. قد لا يكون بعيداً عنها وقد لا يناقضها في كلّ حين إنّما لن يتوافق معها في كلّ وقت ولن يكون ترجماناً لها أو مثلاً عليها. إنّه من صنع البشر ومن آثارهم، وهو مطبوع بهم مهما حاولوا واجتهدوا. ليسوا أصحاب عصمة أيّا كانوا، القداسة ليست للبشر.

هذا ما يتبسّط به ستيفان زفايغ الكاتب النمساوي الشهير في كتاب بعنوان كاستيليو ضد كالفين، كالفين ليس نكرة. فلقد استطاع وهو بعد في شرخ الشباب، أن يكون بين الزعماء الأوائل للإصلاح الديني في القرن السادس عشر، بل أصبح اسمه الثاني بعد لوثر رائد الإصلاح الأوّل، وقد يكون مردّ ذلك إلى عقله المنظّم العمليّ العقائدي، وبذات العقل المتعصّب اقترف الجريمة الأولى في الإصلاح.

تبدأ القصّة بظهور كالفين الذي عانى كثيراً لانخراطه في حركة الإصلاح، ظهوره في جنيف التي كانت إحدى عواصم الإصلاح وقد استقبل لذلك بحفاوة، وسرعان ما صار قسيس المدينة ومرشدها الروحي، لكن كالفين لم يكن ليكتفي بذلك، فشخص في عناده ودوغماتيّته لا يناسبه أن يبقى على حده تاركاً الأمور الأخرى للقيّمين على المدينة ولمجلسها البلدي. سرعان ما نشب الخلاف بين السلطتين الزمنيّة والدينيّة. خلاف لم يتجنّبه القسيس، بل خاضه بجسارة، ممّا حمل المجلس على منع القداديس ومنع القسس من إعتلاء المنبر. قرار كهذا لم يلتزم به كالفين الذي دخل مع جماعته الي الكنيسة. في الآخر علا الشجار بين الخصوم و المؤيدين، فكانت النتيجه أن أعيد كالفين من حيث أتى. لم يطل الوقت حتّى تعثّر المجلس واضطرّ إلى أن يطلب من كالفين العودة. هذه كانت فرصة كالفين ليملي شروطه، أن يكون جزءاً من المجلس الحاكم.

غدا كالفين سيّداً لجنيف لا يتحقق أمر إلاّ عن طريقه. وانتشرت الإعدامات والسجون. رضخ الجميع لولا تصدّي كاستيليو شاب من بازل المدينة الأخرى، ودار الصراع أوّلا حول قضيّة سفيرت.

سفيرت هذا شخص متهوّر سار بالإصلاح إلى نهايات قصيّة فاعترض على الثالوث المقدّس ودعا المسيحيين بما في ذلك كالفين الى طرح الموضوع. اعتقل المهرطق خارج جنيف واستطاع أن يهرب، لكنّ طيشه جعله يسير إلى جنيف و يظهر فيها. اعتقل الرجل بإيعاز من كالفين الذي قرّر أن يحضر جلسات المحاكمة رغم أنّه ليس من هيئة القضاء. نلك انتهى بالحكم بالموت حرقاً على المحرقة. والنار البطيئة تشوي سفيرت،أعلن الرجل إيمانه المسيحي.

إعدام سفيرت حرقاً جرّ إلى سجال كان باكورة النقاش داخل الإصلاح. كاستيليو الأكاديمي النزيه والفقير يتصدّى لكالفين، بدون أن يتنازل عن المستوى الأكاديمي، وبدون أن ينجرّ إلى التحريض والتهييج. حجّة كاستيليو الأولى أن ليس من حقّ أحد أن يعتبر تفسيره للدين هو الحقّ وهو كلمة الله وإرادته. ليس من حق أحد أن ينوب عن الله، ثم إن ّسفيرت وهو على عمود المحرقة، أعلن إيمانه، فلا يصحّ والحال هذه اعتباره كافراً أو مهرتقاً.

لم يكن كالفين من يغضي عن ذلك، فدار بين الإثنين سجال متواتر، احتجّ فيه كاستيليو بلوثر الّذي سبق أن قال إنّنا قد نحيط بالجسد لكن لا نبلغ الروح. كذلك احتجّ بكالفين نفسه في أوّل أيّامه "يعتبر سلوكاً غير مسيحي عندما تضطهد الكنيسة بالسلاح الذين طردتهم من صفوفها. لم تكن حجّة كاستيليو أضعف، لكنه وحيد يواجه قوى متكتّلة ونافذة استطاعت أن تنقل الصراع إلى بازل، وأن تهدّد حريّة كاستيليو الّذي فاجأه الموت وهو ابن تسعة وعشرين عاماً. انتظرت مؤلّفات كاستيليو مئة عام حتّى نشرت وصدرت مؤلفّته الكاملة الّتي اعتبرت سابقة لأوانها ووثيقة أولى في بابها.