بول بولز.(أرشيف)
بول بولز.(أرشيف)
الأربعاء 1 مارس 2017 / 20:08

عملاق الأدب الأمريكي

كان بول بولز يكره الغرب، لكنه يكتب للقارئ الغربي

يقول إبراهيم الخطيب المترجم والناقد المغربي، في مقدمته لقصص "البستان"، للكاتب الأمريكي بول بولز (1999- 1910): عندما حل بولز بطنجة لأول مرة في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي، فإن الأمر لم يكن يعني له في ذلك الوقت أكثر من زيارة اصطياف عابرة لمدينة تخومية بالمعنيين الجغرافي والحضاري. لكن بورت بطل بول بولز في رواية "السماء الواقية" الذي حل في المغرب، يرى أن السائح يستعجل العودة إلى بلاده بعد أسابيع قليلة، أما الرحالة فلا ينتمي إلى أي مكان أكثر من انتمائه إلى المكان الذي يليه، وهو ينتقل ببطء على فترات زمنية تمتد لسنوات. ولحل هذا التناقض نقول إن بول بولز لو كانت زيارته لباريس، لكان سائحاً يستعجل العودة إلى بلاده، لنفوره من الحياة الحديثة، أمّا اختياره للمغرب، فهو اختيار بحدس مسبق، طمعاً في حياة رحالة لشرقٍ بدائي. كان بول بولز يكره الغرب، لكنه يكتب للقارئ الغربي.

في الكتاب المميز "بول بولز وعزلة طنجة" للروائي المغربي الراحل محمد شكري (2003- 1935)، يقول تينسي وليامز عن الكاتب الأمريكي: إن بول بولز أهم كثيراً من الأماكن التي يكون فيها. تفسير هذا القول يعود إلى أن بولز لا يكتب كتابة سياحية مثل باولو كويلو في "الخيميائي.. ساحر الصحراء"، تكون البطولة فيها المكان فقط، بل إن حضور الشخصيات في قصص وروايات بولز، يُشبه كثيراً الحضور القوي الآسر لشخصيات إرنست هيمغواي، نفس الصرامة والاقتضاب والدقة في رسم الخيوط الدرامية، وهي أمور تفرض على القارئ، أخذ الشخصيات بأهمية قصوى. تتساوى لدى بولز، فنيَّة البناء لشخصية المرأة العجوز الشرقية البدائية في قصته الشهيرة "العقرب"، مع فنيَّة البناء لشخصية كيت المرأة المتحضرة الغربية في رواية "السماء الواقية".

بول بولز يحب أن يشعر بالخوف، لكنه لا يعرف لماذا. يعتقد أن الخوف هو الذي يدير العالَم، الخوف هو الانفعال الأقوى كما كان يرى سلفه العظيم إدجار آلان بو، لكنه يختلف مع بو الذي يضع شخصياته تحت وطأة الخوف. يبدو بولز، وكأنّه يكتب بخوفه، خوفه متعة شخصية مثل سيجارة الكيف والشاي المنعنع والكتابة في السرير. لا يظهر الخوف على شخصياته التي تسير ببطء بارد نحو مصيرها التراجيدي القاتم. لو سُئل بول بولز عن قيمة ظهوره في فيلم "السماء الواقية" 1990 للمخرج برتولوتشي، لقال: مُخرج مُراهق، الفنان الواقف وراء العمل الفني لا يجب أن يراه أحد، لكنني الآن في الثمانين أكثر تسامحاً وأكثر شهرة. إن كلمات الحكمة التي وضعها برتولوتشي على لساني في حديثي عن بورت وكيت، لا تعني شيئاً فنياً داخل الفيلم، حتى لو قيلت حَرْفياً داخل الرواية المكتوبة.

وجد بول بولز نفسه داخل الفضاء المغربي الضاج بالأصوات والإيماءات، المزخرف بالرموز والأوشام، فانْغمر دون هوادة في سحر الغرابة. كان بولز يستمتع بخوف جين بولز زوجته التي كانت مُجبرة على مشاركة زوجها العقاب الذاتي الذي فرضه على نفسه. كانت مُجبرة لأن بولز ترك لها حرية الاختيار، معها أو بدونها، سيتجرَّع العقاب.

يتذكر بول بولز بأسفٍ مع الروائي محمد شكري، عندما افترس قطه الوحشي حمامةً، فمزقتْ عظامها أحشاء القط. مفتاح مثالي لعالَم بولز. الأسف أو الشفقة أو الرحمة معكوسة أو في غير موضعها، وكأنَّ عظام الحمامة الرقيقة جرحتْ كريستال الطبيعة الوحشية. وحشية القط بريئة في مقصدها. اللوم موجَّه لكل مَنْ يقف في وجه الطبيعة المفطورة على القسوة. هكذا كان بول بولز في أدبه، يصطاد الشخصيات الحمائم، ويضعها في طريق الشخصيات الوحشية، ويُسجِّل ببرود لوحة الافتراس الدموي.

كانت جين بولز تغذي نتاج بولز الأدبي بوجودها معه. لم يكتب شيئاً هاماً بعد وفاتها، أما هي فقد كانت تنفي وجودها الأدبي في زوجها، ولا تريد أن تعتبر نفسها نداً له. كانت تحب حالة عجزها الدائم أمام الكتابة. كرَّست جين نبوغها في الحياة خلافاً لبولز الذي صب مجهوده في قصص وروايات دون أن تشغله عاطفة عدا وجود جين بجواره. صلابة بولز مزَّقتْ أحشاء جين. كانت جين تقول عن زوجها: قارورة الكآبة. وبولز يقول عن زوجته: تعطي أهمية بالغة للكاتب، وأهمية أقل لعمله. ماذا يهم مَنْ هو وما يحسه إذا كان مجرد آلة لنقل الأفكار؟ هو غير موجود، هو صفر، هو فراغ، هو جاسوس مبعوث للحياة بقوى الموت. موضوعه الرئيسي، إرسال الخبر إلى الجهة الأخرى من الحدود.