رسم تعبيري.(أرشيف)
رسم تعبيري.(أرشيف)
الأحد 5 مارس 2017 / 20:14

انحسارالشعر والإنحسار القومي

يتساءل كثيرون كيف ينحسر الشعر عند العرب وله هذه المكانة، كيف يرضى العرب بإهماله وهو درّة أدبهم ومفتاح تراثهم وترجمان هويتهم وكيانهم القومي.

الشعر هو أوّل كلام نعرفه للعرب،ونظن أحياناً أنّه الكلام وأنّه آخر الكلام بقدر ما كان مبتدأه. لذلك غالباً ما ندمجه بالهويّة، إن نحن قلنا، وغالباً ما نردّد "الشعر ديوان العرب"، فإنّنا بذلك لا نريد النقد الأدبي يقدر ما نريد الخصائص والشخصيّة والامتياز الخاصّ، أي بعبارة أخرى: الهويّة و القوميّة. لذا يسهل على الشعر العربي أن يستحيل فخراً قوميّاً واعتداداً بالذات، ولذا كان لكلّ قبيلة شاعرها، ثمّ صار لكلّ قطر ولكلّ جماعة ولكلّ حزب ولكلّ عقيدة شعراؤها. نقرأ بيانات الأحزاب ونداءاتهم فنقع، للعجب، على كلام شعريّ وآفاق شعريّة وأفكار شعريّة ولغة شعريّة. مرّ زمن لم نكن نميّز فيه بين الخطابة و السياسة وبين الخطابة والشعر وبين الشعر والدعوة. كان من ذلك أن ولّدنا أدبيّات تتدامج فيها الأنواع، أو يغلب عليها نوع واحد، أو تتحوّل هي بذاتها إلى نوع خاصّ يغلب عليه الشعر. لكنّ الشعر آنذاك لا يعود هو نفسه. إنّ أبوّته لكلّ الأدب وانفتاحه على الأدب بكلّ اغراضه، يولّد نوعاً هجيناً ضائعاً بين الأنواع ففيه من الخطابة والحماسة والإرتجاز الفروسي والوعظ الديني والحكمة المستعارة غالباً، وفيه من الغناء والهجاء والتحريض و التعبئة، ما يجعله حائراً بين االأنواع، بدون أن يكون أحدها، وبدون أن يتضمن أحدها كاملاً صافياً، حتّى أنّنا نستطيع القول أنّ في هذه النصوص أنواع تحوّلت عن أصلها أو زاغت عن نفسها، فلم تعد ذاتها ولم تصر غيرها، إنّما هي غريبة عن حالها وعن سواها. هكذا تبدّت "الأصالة" الخاصّة في هذا الضياع عن كلّ نوع. لا ننكر أنّ في ذلك شيئاً من الامتياز ومن الخصوصيّة لولا أنّ هذا الإختلاط يلزم هذه الحدود وهذا الاضطراب بدون أن يخرج منهما إلى سويّة أخرى ومسارات جديدة.

ذلك في الغالب لا يخدم الشعر ولا يخدم الأدب بعامّته. صحيح أنّه يحمل في طيّاته اقتراحات جديدة، لكنّه لا يفصح عنها ولا يصل إلى غايتها فتضيع هكذا مسألة الأصالة أو تغدو، على الأقّل، هشّة وناقصة. لا يمكننا في هذه الحال أن نبدع أو نولّد أنواعنا، أو نصنع لأنفسنا نبراتنا الخاصّة، بل يحدث أن تقع الأشياء على بعضها فتفقد هكذا نكهتها الخاصّة ولا تتفاعل إيجاباً مع الإيقاع المقابل. تغدو هكذا برّانيّة وقشريّة، كأن تغلب الخطابة على الشعر أو يطغى عليه الارتجاز أو الوعظ أو يتآكله غناء سائل أو حكمة ممضوغة. في كلّ الحالات لا ينجح الشعر في أن يستفيد من الأغراض اليوميّة ومن ظرفيّة الغرض ليصبح أكثر حركيّة وتشعباً، بل يلقي على الغرض اليومي لغة غير يومية وتخييلاً موروثاً.

يتساءل كثيرون كيف ينحسر الشعر عند العرب وله هذه المكانة، كيف يرضى العرب بإهماله وهو درّة أدبهم ومفتاح تراثهم وترجمان هويتهم وكيانهم القومي. صحيح أنّ هذا ليس وقفاً على العرب ويشتركون فيه مع بقيّة الأمم، فانحسار الشعر وثانويّته هما كذلك في أدب بقيّة الشعوب، وبينها من يشكلّ الشعر جزءاً عزيزاً من تراثها إن لم يكن ديوانها. هذا صحيح، لكنّ الشّعر يبقى مع ذلك عمود اللغة العربيّة، بل إنّ له دخلاً في تأسيس هذه اللغة وإعادة تأسيسها، إلاّ أنّ شعر اليوم لم ينشأ عن التراث العربي، بقدر ما نشأ عن الوافد الغربي فكان بديهيّاً أن يصيبه ما أصاب هذا الوافد وأن يشتركا في المصير.

هل تكفي هذه التبعيّة سبباً لإنحسارالشعر عند العرب، هل لقي الشعر المتأثر بالشعر الغربي، أو فلنقل الشعر العالمي، ما لقيه هذا الفنّ في العالم. مهما يكن من أمر فإنّ السبب قد لا بكون وحيداً، وإذا صحّ، فإنّ النتائج لن تكون نفسها. الشعر الحديث نشأ في غضون مرحلة سادت فيها أحلام النهضة كما غلب عليها الحلم القومي: تحرير فلسطين والوحدة والتحديث، ولم يبتعد التجديد الأدبيعن هذا الحلم بل تراءى له أنّه في صلبه وأنّه يحمل لهبه وسرّه. السؤال إذا كان هذا صحيحاً ليس في محلّه لكن هل من المصادفة البحتة أن يتواقت انحسار الشعر مع انحسار الموجة القوميّة كما نفهم من قراءة للربيع العربي. هل من المصادفة أنّ الشعر الذي كان موّحداً في المجال العربي يترك المجال للرواية التي تتنوّع بتنوّع الأقطار العربيّة، وتتعدّد بتعددها.