الفيلسوف أبو بكر بن طفيل.(أرشيف)
الفيلسوف أبو بكر بن طفيل.(أرشيف)
الأربعاء 8 مارس 2017 / 19:36

حي بن يقظان

منذ منتصف القرن التاسع عشر، والدراسات حول "حي بن يقظان" لا تنقطع في أوروبا. ربما كانت أوفر الكتب العربية حظاً من التقدير والتأثير في العصر الحديث

إن البحث بعد منتصف الليل، فجأةً، عن كتاب ضمن مكتبة، محفوف بمخاطر الضياع واليأس. كتاب بين ثلاثة ألف كتابٍ على وجه التقريب. كان الكتاب ضمن مجموعة المئة التي لا تبتعد كثيراً عن رف بجوار السرير وأقدامه. مثل أب لا يأمن علي ابنه في أحراش البُعد والنأي. هناك عند علو المكتبة والتحامها بالسقف. البحث في مجموعة المئة يُضعف الرغبة في الكتاب الضائع. متاهات صغيرة. قراءات خاطفة تستدعي مجموعة المئة دفعةً واحدة. مُواجَهَة مع تهافت البحث. لا مفر من الذهاب إلى الأحراش. ذهاب تتحطم على صخرته الرغبة. عار الذوق القديم. صرخات احتجاج يافعة. وبعد يومين يظهر الكتاب الضائع قرب مجموعة المئة. كتاب "رسالة حي بن يقظان" لأبي بكر بن طفيل. وزارة المعارف العمومية، المطبعة الأميرية، 1927. أبو بكر وُلد بالأندلس قرب غرناطة، ولا نعرف تاريخ ميلاده، إنما الأرجح أنه وُلد في السنوات العشر الأولى من القرن الثاني عشر الميلادي.

في جزيرة حنتْ غزالة على حي بن يقظان وربته، ولما قارب سبعة أعوام، اتخذ من أوراق الشجر شيئاً جعل بعضه خلفه وبعضه أمامه، وعمل من الخوص والحلفاء حزاماً على وسطه، وعلَّق به تلك الأوراق. واتخذ من أغصان الشجر عصياً سَوَّى أطرافها وعدل متنها، وكان يهش بها على وحوش الأحراش المُنازعة له. صنَّف مئة من الوحوش ومئة من النباتات، لحمايتها، والائتناس بها، فنبُل قدره عند نفسه بعض النُبل. حاكى حي بن يقظان صوت الغزالة، وصوت الطير والحيوان. وثبتت في نفسه أمثلة الأشياء بعد مغيبها عن مشاهدته، فحدث له نزوع إلى بعضها، وكراهية لبعضها. الموت أدرك الغزالة، فسكنتْ حركاتها بالجملة، وتعطلتْ أفعالها. نادى حي بن يقظان بصوتها، فلم تستجب، فجرَّب أصوات الحيوانات، مجموعة المئة، فلم تستجب أيضاً. ظل يفتش في أعضائها، فوجد القلب في الجانب الأيسر. جرَّده، فرآه مصمتاً من كل جهة، فظل يقلبه ويفحصه، فلم يعثر فيه على آفة. اعتقد أن الساكن في هذا البيت قد ارتحل قبل انهدامه. فتبين له أن الجسد لا قدر له مُقارَنةً بذلك الشيء الذي سكنه مدةً ثم ارتحل. ظن أن الشيء الذي ارتحل من قلب الغزالة لا بد أنه من جوهر.

نظر حي بن يقظان في حواسه، فرأى أن ذاته ليست هذه الذات المُجسَّمة التي يدركها بحواسه، فهان عليه جسمه، وجعل يُفكِّر في تلك الذات التي أدرك بها ذلك الموجود الشريف الواجب الوجود. تبين له أن نقص ذاته إنما هو بكمال ذلك الموجود الواجب الوجود. استغرق في المُشاهَدَة حتى غابتْ عنه الذوات جميعاً، ولم يبق إلا الواحد القيوم.

كانت هناك جزيرة قريبة من تلك التي وُجد فيها حي بن يقظان. وكان أبسال قد سمع عن الجزيرة التي نشأ فيها حي بن يقظان، فارتحل إليها بحثاً، فلم ير أحداً، إلى أن اتفق ذات مرة، أن خرج حي بن يقظان لالتماس غذائه، وأبسال قد ألم بتلك الجهة، فوقع بصر كل واحد منهما على الآخر، فأما أبسال فلم يشك في أنه من العباد المنقطعين، وأما حي بن يقظان، فلم يدر ما هو أبسال، لأنه لم يره على هيئة الذوات التي يعرفها من الحيوان والنبات. فوقف يتعجب من أبسال الذي هرب منه خيفةً أن يشغله عن عزلته. فاقتفى حي بن يقظان أثره لما كان في طباعه البحث عن الأشياء. كان أبسال قد مهر في كثير من الألسن، فظل يتكلم بكل لسان، فلم يستطع إفهام حي بن يقظان شيئاً. ثم آنس كل منهما بالآخر. شرع أبسال في تعليم حي الكلام والعلم والدين ليكون له بذلك أجر عند الله. فكان يُشير إلى أعيان الموجودات وينطق بأسمائها، ويكرر ذلك عليه، ويحمله على النطق، فينطق بها مقترناً بالإشارة، حتى علمه الأسماء كلها.

ظهرتْ في أوروبا ترجمة لقصة "حي بن يقظان" في 1681، وظهرتْ رواية دانيال ديفو "روبنسون كروزو" 1719. وأشار الفيلسوف ليبنتز إلى "حي بن يقظان" وأعجب بها. ومنذ منتصف القرن التاسع عشر، والدراسات حول "حي بن يقظان" لا تنقطع في أوروبا. ربما كانت أوفر الكتب العربية حظاً من التقدير والتأثير في العصر الحديث.