السبت 11 مارس 2017 / 20:03

الجسور الواصلة بين التصوف والأدب

 يمثل التصوف ميراثاً لغوياً عميقاً وجزلاً، ينبو غالباً عن التفاصيل، ويرتفع فوق السياق الاجتماعى الذى أُنتج فيه، متجاوزاً الزمان والمكان، بما يجعله قابلاً للقراءة والتذوق والتفاعل معه من المختلفين فى الثقافات والأديان، ولذا مثّل دوماً تجربة خصبة أمام الأدباء بشتى صنوفهم، شعراء وروائيين ومسرحيين، وذلك لأن التصوف يعزف على وتر إنسانى مشترك، بل متوحد، وهو المشاعر، التى تتوزع بين الحب والكره، والخير والشر، ويتشابه الناس ويتطابقون فى هذا، ويتواشجون فى رباط متين. فعاطفة الحب مثلاً لا تختلف عند رجل أبيض عن الأسمر، وعند الأصفر عن الأحمر. ويشهد تراث الإنسانية على أن ما كان بين قيس وليلى لا يختلف أبداً عما بين روميو وجولييت.

وإلى جانب الأدب يبدو التصوف أكثر رحابة أمام الدراسات الحديثة فى فروع مختلفة من الإنسانيات، سواء بالنسبة للجوانب المجردة والنظرية، أو من خلال الممارسات والتطبيقات. فثراء التصوف على مستوى الشكل والمضمون، والمحسوس والحدسى، أو البرهان والعرفان، يفتح الباب على مصراعيه أمام الدارسين، فى اللغة والأدب والفنون والفلسفة والاجتماع والأنثربولوجى وعلم النفس والسياسة والتاريخ وغيرها. وهذه مسألة ماثلة للأذهان وواضحة للعيان نضع أيدينا عليها إن طالعنا "ببلوجرافيا" التصوف والصوفية والمتصوفة، فى لغات عدة.

ويقوم التصوف على تجربة روحية خالصة، لا تقف عند الاختلافات التى تفرضها شرائع الأديان، بل تتجاوزها إلى البحث عن الحقيقة، دون أن يعنى ذلك التنصل من فروض وأحكام تلك الشرائع، لكنها لا تنظر إليها بوصفها نهاية المطاف من الدين والتدين، بل هى مجرد وسائل لاستلهام الينابيع البعيدة للإيمان. وينطلق التصوف من الإلهى إلى الإنسانى، ولا يُلزم نفسه بالإغراق فى التفاصيل والإجراءات التى يحفل بها الفقه واللاهوت والتقاليد والتدوينات الظاهرية لسير الأنبياء والصحابة والتابعين فى الإسلام، والحواريين والقديسين فى المسيحية، والأحبار والكهنة فى اليهودية. فمثل هذا هو ما فرّق بين أتباع الأديان رغم وحدة أصلها ومنبعها، وفتح باباً وسيعاً لطغيان البشرى على الإلهى، والتقوُّل على الوحى، ونسب إليه ما ليس منه ولا فيه ولا عنه. ومن ثم لا يملك غير التصوف قدرة على تقريب المختلفين فى العقائد والمذاهب.

وينطوى التصوف على العديد من القيم العليا النبيلة التى يحتاج إليها الناس فى كل زمان ومكان، مثل المحبة والتسامح والرضاء، وهى تصلح أن تكون أحجاراً قوية لبناء جسر متين بين أتباع الديانات والثقافات والحضارات. ويدرك كثير من الأدباء، إلى جانب استفادتهم من لغة التصوف الثرية المفعمة بالجزالة وصوره المفارقة البديعة، أن العالم لم يكن فى مسيس الحاجة إلى التصوف، بشتى صوره ودروبه التى عرفتها الأديان جميعاً، أكثر من أيامنا تلك، حيث بلغ الظمأ الروحى أشده، ووصل التردى الأخلاقى مداه، وانطمر الوجدان تحت الاتكاء المفرط على البرهان المبنى على العقل والنقل والتجربة، وزاد تشيؤ الإنسان إلى درجة غير مسبوقة، مع توحش الرأسمالية، وانتشار ثقافة السوق، واحتدام الصراع حول المنافع والمكاسب المادية والنفوذ والجاه والمناصب، وتحول التدين إلى مجرد طقوس وأفعال مادية بحتة تؤدى بطريقة آلية لا ورع فيها ولا خشوع ولا تبصُّر أو تدبُّر، وانجذب من كان عليهم أن يرعوا الأخلاق الحميدة والفضائل إلى تحصيل السلطة، وراحوا يتخففون من الأحمال العقدية والدعوية والتربوية، وتحول أغلبهم من دعاة للدين إلى فتنة فى الدين، علاوة على هذا أخفقت كل جولات الحوار سواء على خلفية الدين أو الثقافة أو الحضارة، لأن الجميع يكتفى بالنظر تحت أقدامه. فالتصوف يمتلك القدرة على الخروج من هذه الدائرة المفرغة، ودفع الأمور قدماً، لأن جوهره وبنيته وأفكاره وتاريخه تحمل سمات تساعد على ذلك. ومن بين هذين النقيضين يسرى التصوف كالنسيم العليل الذى يزيح أمامه غبار التكالب على مغانم الدنيا، أو النور الذى ينبثق فيبدد الظلام الحالك الذى يجثم على النفوس والأبدان. لكنه أىّ تصوف: هل هو الدروشة التى تجعل أصحابها يهيمون على وجوههم فوق الدروب والشوارع؟ أم الطرق الصوفية التى يخلط أغلبها الدين بالفلكلور والبذل بالنفع؟ أم هو الانقطاع عن الناس فى صوامع أو زوايا بذهن منصرف إلى التأمل فى الملكوت الأعلى، ولسان يلهج بالتسابيح؟

وحتى لا يمضى الحديث عن علاقة التصوف بالأدب بلا مثال ولا برهان، سأبين فى هذا المقام تأثير التصوف على أدب نجيب محفوظ، الذى تناول باقتدار فى كثير من أعماله الروائية والقصصية الجوانب الاجتماعية للظاهرة الصوفية، إلى جانب استفادته من لغتها وقيمها وصورها المدهشة. فقد فتح محفوظ عينيه على راياتهم وبيارقهم التى ترفرف على هامات البيوت فى حى الحسين بالقاهرة مسقط رأسه، وكانت أناشيدهم التى يصدحون بها فى وضح النهار وفى الهزيع الأخير من الليل من أولى الأصوات التى تناهت إلى سمعه وهو يحبو داخل المنزل. لا شك أنه تساءل فى طفولته عن هؤلاء الذين يملأون الدنيا ضجيجاً بطبولهم، ولا شك أيضاً أن الإجابة لم تكن كافية لتشبع عقله المتوثب النهم، فراح يجيل البصر هنا وهناك ويقدح الذهن بحثاً عن حقيقة هؤلاء الدراويش، ليصل إلى أن التصوف أعمق من هذه الأشكال الفلكلورية وينطوى على قيم المحبة والزهد، ويسبح فى عالم الحدس والخيال. ويبدو أن محفوظ قد شرب من الظاهرة الصوفية حتى الثمالة فأعماله التى تناول فيها هذا الصنف من الناس تدل إلى حد كبير على أنه هضم الكثير عن المريدين وشيوخهم. عرف الفرق بين الأولياء والأدعياء، وبين الباحثين عن رياضة روحية تشفى أنفسهم العليلة وتقربهم من الحق والحقيقة زلفى، وبين القابضين على مصالحهم الدنيوية المتسترين بعباءة التصوف لتحقيق مآرب عاجلة لا تخرج بأى حال من الأحوال عن ثروة تتراكم من جيوب الغلابة أو جاه يقوى بكثرة الأتباع. وإلى جانب رحلة البحث عن العدل لدى حرافيش الحارات الضيقة مثل "التصوف" بعد أساسى فى مشروع محفوظ الأدبى برمته، بدءاً من قصصه القصيرة وانتهاء بملحمته الرائعة "ملحمة الحرافيش"، وأخيراً يمكن القول إن نجيب محفوظ قد تناول باقتدار الجوانب الاجتماعية للظاهرة الصوفية التى تعد جزءاً لا يتجزأ من مجتمعنا المصرى العامر بالظواهر الإنسانية التى تستحق أن نمعن فيها النظر لنخرج منها بآلاف المعانى كما خرج منها أديبنا العربى الكبير بعشرات الحكايات. ففى قصة "حكاية بلا بداية ولا نهاية" تتطرق إلى عدة أشياء مهمة ارتبطت بالظاهرة الصوفية المعاصرة منها تحالف بعض الطرق الصوفية المصرية مع الاحتلال الإنجليزى ومنها أيضاً استغلال بعض المشايخ للطرق فى جمع ثروات طائلة يصعدون بها إلى أعلى مراتب السلم الاجتماعى، بينما يرزح مريدوهم فى الفقر المدقع، وكذلك مسألة قيام المريدين بنسج الأساطير حول شيوخهم. وفى رواية "اللص والكلاب" يقدم محفوظ نموذجاً للمتصوف المنسحب من الحياة المنكفئ على أذكاره وأوراده بعيداً عن المجتمع وأحواله والناس ومشكلاتهم، ويكمل أديبنا تناوله لهذا الصنف من البشر ولكن باستفاضة فى روايته ملحمة "الحرافيش". وفى رواية طزقاق المدق" يلتقط محفوظ واحداً من أولئك الذين تعرضوا لاضطهاد شديد ووقع عليهم ظلم بيِّن فانخرطوا فى سلك الدروشة

أما فى رواية "يوم قتل الزعيم" فيقدم نجيب محفوظ مثالاً لهؤلاء الذين يعيشون على حافة التصوف أملاً فى آخرة هانئة دون أن يخسروا تمتعهم بمباهج الحياة أو ينعزلوا عن دنيا الناس. وفى رواية "رحلة ابن فطومة" يذهب محفوظ بالتصوف إلى آفاق بعيدة حيث يطرحه على أنه طريق الخلاص ودرب السلامة الذى ينتهى إلى الحقيقة الكبرى فى هذا العالم وهى الموت، وهذا ما أكده فى عمله الإبداعى الفريد "أصداء السيرة الذاتية"، الذى يمكن أن نقول من خلاله بكل اطمئنان إن محفوظ قد انتهى متصوفاً حقيقياً بعد عمر طويل من التجريب والتأمل. ونلمس تأثير الصوفية فى أعمال أدباء كثيرين منهم جمال الغيطانى فى أكثر من رواية وصبرى موسى فى "فساد الأمكنة" وعبدالحكيم قاسم فى "أيام الإنسان السبعة" وعمار على حسن فى "شجرة العابد" بل إن رواية الأديبة التركية أليف شافاق "قواعد العشق الأربعون" قدمت نموذجاً على إمكانية إبداع رواية بديعة من حكاية حقيقية لجلال الدين الرومى وأستاذه شمس تبريزى. وفى كل هذه الأعمال تفاعل الأدب مع الأفكار والقيم الأساسية والمقامات والأحوال والأذواق والمواجيد، التى ينطوى عليها التصوف، وهى:

1 ـ إن الله أقرب إلينا من حبل الوريد، وهو قوة متسامية وكونية فى آن، يمكن لنا أن نشعر بها وندرك جلالها وجمالها، إن جاهدنا الشهوات، وانتصرنا على نقائصنا. والله يحبنا لأننا خلقه، ويجب علينا أن نحبه لأنه واجدنا، ورحمته وغفرانه وسعا كل شىء وكل أحد، ولا يجوز لنا أن نصادر على مشيئته بفرض دينه على خلقه أو إعطاء أنفسنا حق محاسبتهم فى الدنيا، وتقرير مصائرهم فى الآخرة.

2 ـ إن الكون أوسع بكثير مما نتصور، وعلى الإنسان أن يتواضع على قدر استطاعته، فهو لن يخرق الأرض ولن يبلغ الجبال طولاً، ولذا عليه أن يؤمن بأنه فى حاجة دائمة إلى رعاية الله وتعاون البشر.

3 ـ إن الإخوة فى الإنسانية أصل، ويجب ألا يتصارع البشر أو يتنازعون على زينة الحياة الدنيا، بل تربط بينهم المحبة والتراحم والتكافل والتسامح، وهى القيم النبيلة والعميقة التى تسعى الأديان إلى ترسيخها، وتنشغل برعايتها دوما.

4 ـ إن الإنسان فى حاجة ماسة إلى الكثير من أركان التصوف، فالزهد ثروة، إذ يجعل الزاهد مترفعاً عن الدنايا ويقيم ظهره ويقويه فى وجه كل من يسعى إلى استعباده بالمال أو المنصب والجاه، والمحبة واجبة حيال الله والبشر والأشياء، ليس حب التملك الغارق فى أنانية مفرطة، بل الحب المفضى إلى الإيثار والمفعم بالغبطة والامتنان والسعادة. والحدس نعمة يمنحها الله إلى عباده على قدر محبته لهم، إذ بها يتجاوزون حدود المحسوس وينعمون بالإلهام الذى يدركون به على نحو أفضل ما يجرى، ويمتلكون القدرة على تلمس التباشير وحيازة النبوءة. لقد كان التصوف فى بعده الروحى والفلسفى وفى جوانبه المتعلقة بالكرامات التى تؤسس لواقعية سحرية عربية حقيقية نبعاً نهل منه الأدباء وسيظلون هكذا، يغرفون بلا تردد، وهو يعطى بلا انقطاع ويفيض دوماً.