رئيس الوزراء الهولندي مارك روتي.(أرشيف)
رئيس الوزراء الهولندي مارك روتي.(أرشيف)
الأحد 19 مارس 2017 / 20:06

أوروبا بعد أمستردام..!

ما وقع في أمستردام يفتح طاقة للأمل في أجواء قاتمة، فصعود اليمين المتطرّف، والوقوع في شرك القوموية العنصرية، وأوهام حرب الحضارات، ليس بالقدر المحتوم

في ظل أجواء مُقلقة، تنفّس كثيرون في أوروبا الصعداء، بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات البرلمانية في هولندا، التي أسفرت عن فشل اليمين المُتطرّف في حصد أصوات الناخبين، والوصول إلى سدّة الحكم. ويمكن إدراك ما انتاب هؤلاء من قلق عشيّة الانتخابات، إذا وضعنا في الاعتبار أن بعض استطلاعات الرأي توقّعت فوز اليمين، وأن الانتخابات جرت في ظل افتعال تركيا الأردوغانية أزمة سياسية ألقت بظلها على الانتخابات، واستنفرت الكثير من المشاعر الشعبوية الغاضبة.

ويصعب، أيضاً، إدراك حقيقة تلك الأجواء المُقلقة ما لم نضع في الاعتبار حدثين من عيار ثقيل وقعا في وقت سابق هما الاستفتاء في بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي، وفوز دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكية. فقد منح كلاهما أحزاب اليمين الأوروبي المتطرّف ما يوحي أنها ظاهرة عامة، وصاعدة، في كل الديمقراطيات الغربية، وبالقدر نفسه زعزع ثقة النخب السياسية السائدة في إمكانية صمود قيم الديمقراطية الليبرالية أمام موجة الشعبوية بكل حمولتها العنصرية، وحنينها لإنشاء أنظمة شمولية.

ويمكن، في هذا السياق، فهم مشاعر الارتياح التي تجلّت في فرنسا وألمانيا بشكل خاص. فكلاهما على أعتاب انتخابات حاسمة هذا العام، وكلاهما شهد صعوداً لليمين المتطرّف، وإن يكن بدرجات متفاوتة، في السنوات الأخيرة، لذا بدت نتائج الانتخابات الأخيرة في هولندا وكأنها ترسم خارطة طريق مغايرة لسيناريوهات سوداوية تخيّم على المشهد السياسي لا في البلدين وحسب، ولكن في عموم أوروبا.

وقد سارع الرئيس الفرنسي، هولاند، إلى تهنئة رئيس الوزراء الهولندي على "فوزه الواضح على التطرّف" كما جاء في تغريدة على تويتر، أعقبت الإعلان عن نتائج الانتخابات، في أمستردام. أما بيتر ألتماير، كبير مساعدي المستشارة الألمانية، ميركل، فكان أكثر حماسة في التعبير عن الفرح الغامر، وكتب على تويتر "هولندا، يا هولندا، أنتِ البطلة".
والواقع أن رهانات القوى السياسية في الديمقراطيات الليبرالية الغربية أصبحت كبيرة، وربما مصيرية، في الوقت الحالي. فصعود اليمين المُتطرّف لا يهدد مستقبل الاتحاد الأوروبي، ومستقبل الأنظمة القائمة، بل وينطوي على احتمال تقويض دعامات الأمن والاستقرار، مع كل ما فيهما من ضمانات السلام الاجتماعي، والرخاء الاقتصادي. ولكل هذه التداعيات المُحتملة تأثير مباشر على مستقبل السلم في أوروبا والعالم.

يضم ما يندرج في تعبير "اليمين المُتطرّف" أيديولوجيات، وتحيّزات قوموية عنصرية عميقة الجذور في التاريخ الأوروبي نفسه، وقد كانت في صميم الدوافع التي أوقعت أوروبا، والعالم، في جحيم الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأسفرت في النصف الثاني من القرن العشرين عن هزيمة أخلاقية وسياسية مدوّية للقوموية العنصرية، وانحسار نفوذها في المجتمعات الغربية.
والمُفارقة، في هذا الشأن، أن اتهامات تركيا الأردوغانية للأنظمة القائمة في ألمانيا وهولندا (وفي أوروبا عموماً) في الوقت الحالي، بالفاشية والنازية، لا تمثل انتهاكاً فاضحاً للحقيقة وحسب، بل وتنم أيضاً عن ميل واضح لتحويل الخلافات السياسية بين الدول إلى حرب بين الحضارات. ويتجلى هذا الميل نفسه في طليعة المرافعات الأيديولوجية التي يسوقها اليمين الأوروبي المتطرّف لتبرير وجوده. وبهذا المعنى، يصح الكلام عن الشعبويتين الأردوغانية، والأوروبية، كوجهين لعملة واحدة، فكلاهما يصب الماء في طاحونة الآخر.

من السابق لأوانه، اليوم، قياس ما تركته نتائج الانتخابات الهولندية من تأثير على انتخابات قادمة في ألمانيا وفرنسا. فالتوازنات السياسية، والقاعدة الاجتماعية لليمين المُتطرّف، ناهيك عن خصوصية الصراعات السياسية المحلية، تختلف من بلد إلى آخر. ومع ذلك، يمكن القول إن ما وقع في أمستردام يفتح طاقة للأمل في أجواء قاتمة، فصعود اليمين المتطرّف، والوقوع في شرك القوموية العنصرية، وأوهام حرب الحضارات، ليس بالقدر المحتوم، فقد تراكمت وترسّخت في مجتمعات الديمقراطية الليبرالية، على مدار عقود طويلة، خبرات وتقاليد ديمقراطية يصعب التقليل من شأنها.

وإلى هذا كله تُضاف حقيقة ما يجابه إدارة ترامب في الولايات المتحدة من مشاكل وعقبات ومقاومة قد تطيح بها، وكذلك ما يتجلى في بريطانيا، بعد الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي، من قلق على المستقبل، واحتمال تفكك المملكة المتحدة نفسها.فبقدر ما يمكن النظر إلى الحدثين الأميركي والبريطاني كدليل على صعود سياسات الشعبوية والنزعات اليمينية والانعزالية، في أوروبا والغرب عموماً، يمكن النظر إلى الحدثين كدليل حي ما في صعود كهذا من مخاطر لم تعد نظرية، بل أصبحت ماثلة للعيان.