رواية الأم لماكسيم جوركي.(أرشيف)
رواية الأم لماكسيم جوركي.(أرشيف)
الأربعاء 22 مارس 2017 / 18:41

أمهاتٌ على أوراق الأدباء

لا ننسى أشهر فجيعة تضربّ أمًّا في السينما والرواية المصرية في قصة "الحرام" لعظيم مصر "يوسف إدريس"

اليوم، في عيد الأم، فكرتُ أن أروي للقراء كيف تناول بعضُ أدباء العالم تيمة "الأم" على أوراقهم. بدايةً برواية "الأم" للروسي العظيم "مكسيم جوركي"، التي تتحدث عن أم بسيطة غير متعلّمة، عالمها محدود بدائيّ لا تعرف فيه غير جمع القروش الشحيحة من بيع الشطائر لعمال المصنع الذي يعمل به ابنها الوحيد. لم تكن تدري أن ابنها ينتمي لجماعة من الثوّار يجتمعون في منزله لعقد الخطط التعبوية لتبصرة فقراء العمال بحقوقهم ومقاومة قيصر روسيا الظالم أيام الإمبراطورية الروسية الفاسدة والتعبئة لإشعال ثورة. بعد القبض على ابنها، بدأت الأم تستوعب ما يجري حولها حين أخبرها رفاقُ ابنها أن الحل الوحيد لتبرئة ابنها وإطلاق سراحه، هو أن يستمر توزيع المنشورات وهو حبيس المعتقل حتى يتأكد القضاة أن أحدًا غيره يقوم بتلك المهمة، فينال البراءة والحرية. تُجازفُ الأمُّ بنفسها وتُخاطر بتوزيع المنشورات التعبوية ضد القيصر على العمال مع شطائرها. ويومًا بعد يوم، يبدأ وعي الأم السياسي في النضوج، حتى تتحوّل إلى مناضلة ثورية مع رفاق ابنها، وتنال لقب "أم الثوار". ولحظة القبض عليها، وبينما الجنود يضربونها ويسحلونها تصرخ في وجوههم بجسارة: "لن تنطفئ شعلةُ الحقيقة، وليس بوسعكم قتل النفوس التي بُعثت من جديد".

وعلى النقيض من تلك الأم، نجد الأم الانتهازية في مسرحية: "الأمُّ شجاعة وأبناؤها" للألماني العظيم "برتولد بريخت"، التي تُصنّف كأفضل مسرحية في القرن العشرين. فنتعرف على الأم "آنا فيرلنج" التي تمتلك مِقصفًا لبيع الطعام للجنود المتناحرة في حرب الثلاثين عامًا التي دارت رحاها في أوروبا بالقرن السابع عشر. لم يكن يشغلها سوى التكسّب من ظرف الحرب ببيع الطعام لمعسكرات للجنود المتحاربة، لكي تُطعم صغارها. وعيها الغريزي المحدود أنبأها أن إطعام أطفالها، هو الهدف الأنبل في الحياة، بصرف النظر عن مصدر هذا الطعام، وإن كان من أشلاء البشر. يُقتل أحدُ أبنائها في الحرب، فتحرم نفسها من راحة البكاء عليه حتى لا يعرفُ الجنود أن ابنًا لها ينتمي لأحد المعسكرين. كان هدف بريخت من تلك المسرحية هو إبراز ويلات الحرب وكيف أنها تُبرز أسوأ ما في الإنسان من بلادة وقسوة وانتهازية.

أما في مسرحية "الأم" للكاتب المسرحي التشيكي "كارل تشابك"، فنتعرف على سيدة تفقد زوجها واثنين من أبنائها في الحروب الأهلية، وتكاد أن تفقد بقية أولادها. وصراعها الداخلي ينجم من أن أبناءها ينتمون إلى معسكرات متناحرة. تتوسّل إلى أبنائها ألا يخرجوا للحرب، خوفًا على أوراحهم، ولكن حين يهاجم بلادَها عدوّ تنتصرُ وطنيتُها على أمومتها وتدعوهم للخروج والدفاع عن وطنهم.

وبعيداً عن المسرح السياسي، نتأمل نوعًا آخر من الأمهات في رواية "الأم" للكاتبة الأمريكية "بيرل بك". فلاحة فقيرة شابة راضية بحياتها، وقانعة حتى بزوجها الساخط المتمرد الذي يقسو عليها وعلى أطفالهما، بل يقسو حتى على أمّه العجوز، ثم يترك الجميع ويهرب تاركاً كل تلك الأرواح دون سند ولا عائل. فتؤلف تلك الزوجة المهجورة كذبة من أجل رفع معنويات أطفالها وحفظ ماء وجهها أمام سكان البلدة، زاعمة أن زوجها سافر للعمل في بلدة بعيدة، وأنه يُرسل لها مصروفات أطفالها. راحت تعمل أجيرة في الحقول طوال يومها وليلها، وتقتص من دخلها الضئيل قروشاً، تُرسلها إلى نفسها بالبريد مدعية أنها من الزوج المسافر. يعرف حقيقة قصتها وكيلُ مالك الأرض التي تفلح بها، فيستغلّ عوزها ويغتصب جمالها ويُسقطها في الخطيئة معه. وتبدأ الكوارث تضرب تلك الأسرة التعسة، فتستسلم لها المرأةُ الشابة وهي تؤمن أنها عقاب السماء لها على زللها في الفحشاء. ويكبر أولادها وترى أحفادها يلعبون من حولها فتشعر أن الله قد غفر لها خطيئتها.

أما الأديب الفرنسي "فرانسوا مورياك"، فيقدّم لنا في رواية "أم"، لونًا من الأمهات غير السويّات اللواتي يحببن أبناءهن لدرجة تدميرهم. تُحاصرُ الأم وحيدَها بسياج منيع من الحب والحنو والتدليل، وتغارُ عليه من الجميع حتى ينشأ الابن متصدّع الشخصية مهزوزًا لا يستطيع بناء ذاته. وحين تعرّف على الحبّ في صورة فتاة نقية ملائكية الطباع، تزوجها فأساءت الأمُّ معاملتها حتى ماتت الزوجة الشابة. لكن روحها الطيبة لم تترك هذا الابن التعس فظلّت تُلهمه وتمدّه بطاقة إيجابية حتى نجح في التخلص من أسوار أمه الحديدية المهيمنة وبدأ في العثور على ذاته وتكوين شخصيته الخاصة المستقلة، في حين بدأت الأم يزوي بريقها وتفقد رغبتها في الحياة وتتآكل روحها وهي ترى ابنها يتحرر من طغيانها.

وعلّنا لا ننسى أشهر فجيعة تضربّ أمّاً في السينما والرواية المصرية في قصة "الحرام" لعظيم مصر "يوسف إدريس". الفلاحة الأجيرة الفقيرة عزيزة التي يغتصبها ابن صاحب الأرض وهي تبحث لزوجها المريض عن ثمرة بطاطا اشتهاها. وبعدما أنجبت طفل الخطيئة وضعت يدها على فمه لكيلا يصرخ ويُفتضح أمرها فمات الوليد. فراحت تصرخ في جنون ولوعة بأشهر جُمل السينما المصرية بصوت العظيمة فاتن حمامة: "جدر البطاطا كان السبب يا ضنايا".
كل عام وكلّ أم طيبة على هذا الكوكب، أكثر جمالاً وطيبة.