صورة تعبيرية.(أرشيف)
صورة تعبيرية.(أرشيف)
الخميس 23 مارس 2017 / 20:02

الرحّالة المتأخرون وشغف الرحلة في عصر التفكّك الاستعماريّ!

كثيرة هي نصوص الرحّالة الغربيين عن الشرق العربيّ وخصوصًا نصوص الرحّالات النساء الغربيات وحكايات بعضهن قد تجاوزت مجرد الرحلة إلى الزواج بعربيّ

في ثمانينيات القرن الماضي اجتذبت صحراء النفوذ في الجزيرة العربية رحّالة غربيًّا هو الدبلوماسيّ والسفير الهولنديّ السابق بول مارسيل كورب ورشوك الذي تماهى مع البداوة العربية الأصيلة إلى الحد الذي يعد فيه نفسه أحد أبناء قبيلة "شمر" وأطلق على نفسه اسم "مارسال الشمري"! وبول مارسيل قضى سنواتٍ من عمره وهو يتعلّم الشعر العربيّ القديم وأتقن اللهجة البدوية ودرس الشعر النبطيّ وتتبع الأماكن التي ذكرها الشاعر الجاهليّ امرؤ القيس في معلقته الشهيرة، وانتهى به ذلك البحث إلى تتبّع دلالات الأشياء ومعانيها في ارتباط الإنسان بالعالم من حوله. وحسنًا فعلت قناة "العربيّة" عندما أعدّت فيلمًا وثائقيًا من أجزاء عن رحلة بول مارسيل الذي أسمته"الرحّالة الأخير" تضّمن رحلته في صحراء النفوذ كما عرضها في كتابه"البدوي الأخير".

أصدر الباحث الإيرانيّ المختص بالدراسات الثقافية المقارنة علي بهداد كتابًا استثنائيًا في تناوله لموضوع في غاية الأهمية هو الرحّالة الغربيون المتأخرون في عصر تفكّكت فيه الدول الاستعمارية وزالت فيه تلك الغرائبية المدهشة التي كانت تصف الرحلات الغربية الأولى المبكرة إلى الشرق العربيّ. والكتاب اسمه"الرحّالة المتأخرون: الاستشراق في عصر التفكّك الاستعماريّ"، وهو من إصدارات مشروع كلمة الإماراتيّ. ولقد استعان الباحث بحقلي النقد الثقافي والدراسات مابعد الكولونيالية موظفًا النظرية الأدبية والفلسفة والانثروبولوجيا والتاريخ والتحليل النفسي إلى جانب الوثائق والمصادر التاريخية.

ويمثل بحثه مقاربة جديدة تجاوزت الرائج عن هذا النوع من الدراسات التي حصرت الرحلات الاستشراقية في صورة منمّطة واحدة هي المنظور الكولونيالي والخطاب الاستعلائي؛ فمقاربة بهداد نظرت إلى وجود انشطار في نصوص هؤلاء الرحّالة الغربيين المتأخرين بما في ذلك بعض النصوص التي تحدَّت الخطاب الكولونيالي السائد وشكَّلت معارضة ضمنية ضده. ومن المباحث الطريفة في الكتاب وقوف بهداد عند تمثيلات المرأة الغربية الرحّالة في هذه النصوص وهو ما أُطلِقَ عليه" الاثنوغرافيا الكولونياليّة وسياسات الجنوسة" من خلال عرضه لكتاب الليدي آن بلنت"الحج إلى نجد"1881. لقد ارتحلت المكتشفة والأكاديمية المستشرقة والنصيرة القوية للقوميّة العربية آن بلنت إلى الشرق بصحبة زوجها ويلفرد بلنت ورغم المجهود الكبير الذي بذلته في التأليف وسرود الرحلة ورسوماتها إلا أنه لم يُسمح لهذه المستشرقة بعد عودتها أن تشترك مع زوجها في سرد الرحلة وعرض الكتاب؛ فلم يُسمح للنساء آنذاك بعضوية الجمعية الجغرافية الملكية التي ظلَّت آنذاك حكرًا على الرجال.

من الأمور الطريفة كذلك وجود رحَّالة غربية تنكَّرت في زيّ رجل على مدى بضع سنوات فقط كي تكتشف الآخر بعيدًا عن محدّدات الهوية الجنسية رجل/ امرأة وهي ايبرهاردت النمساوية. تقول في كتابها"نحو الآفاق الزرقاء":" لن يتأتى لي رؤية أي شيء إذا ارتديت الملابس الخاصة بالمرأة. وسيكون العالم بأجمعه مغلقًا أمامي لأنه، فيما يبدو، جُعِلَ للرجال دون النساء".

كثيرة هي نصوص الرحّالة الغربيين عن الشرق العربيّ وخصوصًا نصوص الرحّالات النساء الغربيات وحكايات بعضهن قد تجاوزت مجرد الرحلة إلى الزواج بعربيّ والانصهار التام في مجتمعه وطقوسه وعاداته وتقاليده كما حدث على سبيل المثال مع الليدي الجميلة الأرستقراطية جين إليزابيث ديغبي(1807_1881) التي تزوجت من أحد شيوخ قبيلة عنزة في دمشق وهو مجول المصرب الذي أحبها لشخصها وأحبته لنبله ومروءته وفروسيته وبكى عند قبرها بعد وفاتها بوباء الكوليرا .

وعودة إلى الرحَّالة الأخير بول مارسيل وهو الرحَّالة الذي وثَّقت قناة "العربيّة" رحلاته التي نشرها في كتابه"البدويّ الأخير" أتساءل ألا تزال الجزيرة العربية ونحن في عصر العولمة الثقافيّة عنصرًا جاذبًا لرحَّالة من أمثال بول مارسيل هجروا مدنيتهم وتماهوا مع البداوة تماهيًا تامًا؟ إنَّ بول مارسيل الذي أعدّ أطروحة الدكتوراه عن الشعر النبطيَّ وأتقن اللهجة البدوية إلى درجة أنه يتغزل بزوجته موظفًا بعض الأشعار النبطية التي يحفظها عن ظهر قلب! قد جعل خطاب الصحراء بثقافته وقيمه خطابًا دلاليًا كاشفًا عن علاقة الإنسان بالكون: إنَّه الشغف الكونيّ هو الذي حرّك مارسيل وسواه لارتحالٍ طويل أخذ من عمرهم الكثير ولكنه في المقابل منحهم الأكثر : منحهم عمقًا في الحياة لم يكونوا سيكتسبونه لولا تلك الرحلة ولولا ذلك السفر!