مواطنون يحاولون اسعاف مصاب على جسر وستمنستر في لندن.(أرشيف)
مواطنون يحاولون اسعاف مصاب على جسر وستمنستر في لندن.(أرشيف)
الأحد 26 مارس 2017 / 20:03

العالم في زمن الجهل المُقدّس

الهوية المُلتبسة، في زمن "الجهل المُقدّس"، التي قادت خالد مسعود لارتكاب عمله الإرهابي في لندن، قبل أيام، هي نفسها التي دفعت أعداداً يصعب حصرها من "الجهاديين" القادمين من أوروبا والولايات المتحدة للالتحاق بالجماعات الإرهابية في سورية والعراق

لا ينتمي خالد مسعود، الذي قتل شرطياً، وعدداً من المارّة، وحاول اقتحام مبنى البرلمان البريطاني، إلى الفئة العمرية المألوفة للإرهابيين في الغرب، فهو ليس في سن الشباب، بل في الثانية والخمسين من العمر. ومع ذلك، يشترك مع هؤلاء في سيرة شخصية توحي بتاريخ من العنف، إلى جانب هامشية اجتماعية، ومخالفات وجنح كالسرقة، وتعاطي المخدرات.

وفي الأخبار التي تناقلتها منابر إعلامية، في الأيام الماضية، أنه ينحدر من أب أفريقي أسود، وأم إنجليزية بيضاء، وأنه اعتنق الإسلام في السجن. وهذه المعلومات التي تُميّزه عن إرهابيين وُلدوا في الغرب لعائلات مُهاجرة، أو هاجروا إليها من بلدان عربية وإسلامية، توحي بالهجنة الثقافية، وهي القاسم المشترك مع بقية الإرهابيين. فهؤلاء يعيشون في مكان ما بين عالم فشلوا في الاندماج فيه، وعالم مُتخيّل لا يعرفونه، ولكنه يعزز لديهم وهم الانتماء، ناهيك عن إضفاء طابع القداسة على ميل مُضمر وصريح للعنف.

ولعل في هوية مُلتبسة كهذه ما يعيد التذكير بفرضية الفرنسي أوليفيه روا، وهو أحد كبار الباحثين في الإسلام السياسي، التي كرّس لها كتاباً صدر قبل سنوات بعنوان "الجهل المُقدّس: زمن دين بلا ثقافة". فالأديان المعروفة في العالم ذات خصوصيات لغوية وثقافية تبلورت في بيئة جغرافية وحضارية معيّنة، ولكن العولمة أطاحت بالخصوصية، وجرّدت الإيمان من بيئته التقليدية، فأصبح جملة مفاهيم مجرّدة انفصلت عن تجربتها التاريخية وسياقها الحضاري.

وفي هذا الصدد يقدّم روا نماذج لدعاة من كوريا أصبحوا زعماء للمسيحية الإنجيلية في أميركا، إضافة إلى نماذج من بيئات حضارية، ومناطق جغرافية مختلفة، بما فيها العالم العربي والإسلامي. فالنموذج الطالباني، مثلاً، وثيق الصلة بالخصوصية الأفغانية، والتقاليد الثقافية للقبائل البشتونية، ولكنه يُمارس نفوذاً على آخرين في مناطق مختلفة من العالم.

بمعنى آخر، الهوية المُلتبسة، في زمن "الجهل المُقدّس"، التي قادت خالد مسعود لارتكاب عمله الإرهابي في لندن، قبل أيام، هي نفسها التي دفعت أعداداً يصعب حصرها من "الجهاديين" القادمين من أوروبا والولايات المتحدة للالتحاق بالجماعات الإرهابية في سورية والعراق، وهي التي دفعت غيرهم لارتكاب أعمال إرهابية في بلدانهم.

والواقع أن بين الهامشية الاجتماعية لهؤلاء، وهوياتهم المُلتبسة، وبين مَنْ يشبهونهم في العالم العربي، أكثر من قاسم مشترك. ومن المفيد، في هذا الصدد، الإشارة إلى ما كتبه مؤرخ عراقي من الموصل لم يُفصح عن اسمه الحقيقي، أنشأ صفحة على الإنترنت بعنوان "عين الموصل" دوّن فيها بعض تفاصيل الحياة اليومية بعد احتلال الدواعش للمدينة في العام 2014 وحتى هروبه منها خوفاً من بطش الدواعش بعد عام.

واللافت في تلك التفاصيل، المكتوبة في الشهر التالي لسقوط المدينة، ما جاء فيها عن أشخاص يعرفهم، أو سمع عنهم، أصبحوا أمراء وسادة للموصل في زمن الدواعش، يقول: "في إمكان أي شخص أن يسأل عابراً من سكان الموصل عن بعض مسلحي داعش ليخبره مباشرة أنه كان يعرفه "هذا المجرم السارق السكير" من الذين يضعون الوشوم على أكتافهم وأجسادهم، من أصحاب السوابق والإجرام، فانا شخصياً أعرف أحد مسلحي داعش قضى حياته كلها في السجن منذ صباه بجرائم "الشذوذ الجنسي"، وهو سكير ما يزال يشرب الخمر حتى وهو مع داعش، لكنه الآن يرتدي ثيابهم ويحمل السلاح ورايتهم".

يضيف المؤرخ الموصلي: "وآخر معروف في المدينة في منطقة الزنجيلي تحديداً، وآخر أخبرني عنه صديقي قال: هل تتخيل أن فلان أصبح من داعش؟ قلت له وما به؟ قال هذا كان يبيع أقراص الأفلام الإباحية للشباب في المنطقة، والآن يتكلم باسم الله والشريعة والدولة الإسلامية. وسابقاً كان هناك شخص آخر معروف في منطقة الزنجيلي، أيضاً، يسمى "ابن وداد" لكنه في وقت ما أصبح أميراً في تنظيم القاعدة، وآخر يسمى "ابن عزيز" يعرفه أهل منطقته بــ "أحمد مزبلة" هو أيضاً من قيادي داعش اليوم، هل تظنون إنني أبالغ؟ أبداً، لا أبالغ، إنها هي الحقيقة".
مَنْ جاءت أسماؤهم في هذا المُقتطف الطويل هامشيون بالمعنى الاجتماعي. وعلى الرغم من اختلاف البيئة اللغوية والثقافية والاجتماعية، وطبيعة المشاكل السياسية، إلا أنهم يشاركون صاحب العمل الإرهابي، في لندن قبل أيام، في هويات مُلتبسة، وطاقة عنف كامنة، وجدت في أيديولوجيا دموية، عابرة للحدود والثقافات والقوميات، ما يمكن أصحابها من إعادة اختراع أنفسهم، وما يمكّن لاعبين محليين وإقليميين ودوليين من تحويلهم إلى بيادق على رقعة شطرنج كبيرة اسمها العالم في زمن الجهل المُقدّس.