صورة تعبيرية.(أرشيف)
صورة تعبيرية.(أرشيف)
الإثنين 27 مارس 2017 / 20:09

المسرح شرفة المدن المتراجعة

الأندية تزدهر في حين تتراجع المسارح ولا تعود جاذبة، ليس فقط للجمهور وحده، بل للممثّلين الذين يتحوّلون إلى المسلسلات التلفزيونيّة والكتّاب الذين يسلكون ذات الطريق

كان المسرح من مظاهر المدينة الأولى، أو كان في خطاطة المدن ومشروعها، وبالحماس الذي أنشئت فيه هذه المدن، بالسرعة والاعتباطيّة اللتين اجتلبت بهما مدن من الضفة المقابلة للمتوسّط، قام المسرح فتيّاً ناشطاً، كأنّه يبني على تراث عريق. كان حظّه من حظ المدينة التي اختصرت طموح المستقبل، وبالتأكيد ارتبط ذلك بمشروع الدولة ونشوء طبقة سياسيّة وبرجوازيّة كولونياليّة وثقافة مدينيّة. كان المسرح مفخرة هذه الطبقة وطابع نمط الحياة الجديد الذي تترسمه. لذا لم يكن مستغرباً أن يشبّ بسرعة، وأن ينخرط فيه كثيرون وأن تتعدّد فرقه ومجالاته، من المغنّاة إلى الهزليّة إلى البطوليّة إلى المأساة. المهم أنّ المسرح انضاف إلى نمط حياة جديد وثقافة مجلوبة، وبالتأكيد اعتنت به الحكومات والطبقات الصاعدة. ثم لمّا استولت الدول باسم الثورة على مقدّرات البلد، ظلّ المسرح من معالم الدولة الجديده ومن مآثرها، يطلّ من داخل رأسماليّة الدولة ويشهد لها.

كان علينا أن ننتظر تحولات المدن تحت وطأة ترييف متفاقم، وبالقدر نفسه تفكّك رأسماليّات الدولة وانحطاطها، لنرى المسرح الذي كان درّة المجتمع الجديد، يلحقه ما يلحق هذا المجتمع فينحدر. لم يصمد بالطبع أمام السينما، ولم يعد من تسالي الطبقة الجديدة التي اجتلبت ملاهيها ومسرّتها من كلّ مكان وسعت إليها في كلّ مكان. بالتأكيد لم يعد المسرح والمسرح المحلّي درّة ملاهيها. لم تعد له الجاذبيّة التي كانت له من قبل. لم يعد قبلة الطامحين إلى الصعود الإجتماعي والشهرة والصيت والإسم، لقد تحوّل الى الماضي القريب، واستبدلت به وسائط أسرع وأكثر فعالية وأكثر انتاجاً وأعلى مردود أو أفضل عاقبة. باختصار لم يعد المسرح فناً جديداً لمجتمع جديد. لقد بات بسرعة في الخلف.

المدن الحديثة كانت بالتأكيد الصنيع الأجدى للمجتمعات الكولونياليّة. في مبتدأها كانت بروفات عن المدن الإستعماريّة، وغالباً ما ساهم المعمرون الأجانب من دول الاستعمار في بنائها، إن لم يكونوا بناتها الأصليين. لقد أنشأوا عماراتها وبساتينها ومصانعها، وبالطبع أنشأوا ملاهيها ومغانيها واجتذبوا إلى لغتهم وثقافتهم نخبها، وحتّى هذا الوقت كانت المدن نسخاً عن المدن الإستعماريّة، وبهذه الصفة كانت مدناً حقيقيّة. كانت لها مطلاّت وهيكل ومعالم المدن. لكن من معالم الطور الإستعماري إهمال الريف وتحويله إلى مورد للمواد الأوليّة والعمّال غير المهرة، ما كان يعني بالدرجة الأولى إهمال الريف وتركه للخراب والضيق، ما دفع بأعداد متزايدة منه إلى الزحف إلى المدينة والعيش في ضواحيها البالية المزدحمة بالأكواخ والعشش، ومستويات متدنيّة من الفقر لا تسمح بتعليم عال ولا حياة لها نصيب من الفراغ والتسلية، وبالطبع لم يكن هذا في صالح المدينة ولا في صالح ثقافتها.

المدن التي تريّفت لم تعد مدناً. لم يبقَ لها ما تقوم عليه المدينة وما يفرّقها عن الأرياف. لم تعد خليطاً اجتماعيّاً من أفراد لا ينتسبون إلى قرابة أو طائفة أو جماعة أو عرق. إنّهم ينتمون إلى أنفسهم أوّلاً، إلى المكان الّذي يقطنونه والمهنة الّتي يشتغلون فيها، ينتسبون بالقدر نفسه الى المصنع والورشة والمكان الّذي يجمعهم ويشتركون في إنتاجه، وبالطبع ينتمون إلى الجماعة الّتي تشترك في المهنة وإلى أطرها وأنظمتها. ليس هذا حال الريف الّذي تجمع الناس فيه أسباب أخرى، من بينها القرابة والدّم وقد تتجاوز ذلك إلى العشيرة والعرق والطائفة والدين.

أهل الريف الزاحفون إلى المدينة يستقرّون فيها، في أماكن تراعي مواطنهم الأولى وأصولهم الطائفيّة والعرقيّة. لا تعود للمدينة سماتها ولا خواصّها .وبالتالي لايبقى لها نمط حياتها ولا ثقافاتها.ينتظم الناس على غير ما كانوا ينتظمون عليه. هكذا يتبدّل جوّ المدينة، كما تتغيّر ملاهيها وأسباب تزجيتها لفراغها. لا تعود تجتذب الناس فرجة كالمسرح، فالجلوس ساعتين في صمت وانفراد، ومتابعة أفعال وكلام لا تختلف جذريّاً عن يوميّات الحياة ونثريّاتها، أي ما يشبه موضوعات النميمة، لا أصل لها في حياة الريف المليئة بالتهاويل والتهويمات والقصص البطولية والخرافية، كما أنّ الانفراد في الصمت والانتظام في صفوف ليسا مألوفين في الريف ولا يوفّران متعة كافية، وخير منهما الرياضات العضليّة. لذا نجد الأندية تزدهر في حين تتراجع المسارح ولا تعود جاذبة، ليس فقط للجمهور وحده، بل للممثّلين الذين يتحوّلون إلى المسلسلات التلفزيونيّة والكتّاب الذين يسلكون ذات الطريق.