موكب يهودي يحتفل بوعد بلفور.(أرشيف)
موكب يهودي يحتفل بوعد بلفور.(أرشيف)
الخميس 30 مارس 2017 / 19:43

بريطانيا التي لا تريد الاعتذار

يبدو "بلفور" في هذا السياق مجرد موظف تافه ومطيع في سياق فلسفة استعمارية راسخة ومعادية لشعوب المنطقة وتطلعاتها، موظف من ذلك النوع الذي تصنعه الماكينة البريطانية وتدفعهم منذ عقود نحو المنطقة

لم تعتذر بريطانيا عن تسببها في المأساة الفلسطينية المتواصلة وارتدادتها في المنطقة والعالم، حتى بعد أن انحسرت امبراطوريتها وتراجعت خلف مياه المانش الضحلة نحو الجزر، حيث النقطة التي انطلقت منها واحدة من أعتى الامبراطوريات الاستعمارية في التاريخ البشري.
  
حتى وهي تواجه تفككها ونزعات الاستقلال عنها، آخرها في اسكوتلندا حيث أشعل البرلمان الاسكتلندي الضوء الأخضر لإعادة فتح "اتفاقية الاتحاد (1707)"، وبينما توقع رئيسة الوزراء المحافظة "تريزا ماي" الرسالة الرسمية لإطلاق مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بعد استفتاء مثير للجدل، يعود الاسكتلنديون لطباعة السؤال من جديد على بطاقات الاستفتاء للخروج من المملكة المتحدة: "هل ينبغي أن تكون اسكتلندا مستقلة؟".

هناك وثيقة تحظى بدعم مؤسسات ومنظمات أهلية بريطانية يجري تداولها للتوقيع، تطالب بريطانيا بالاعتذار للشعب الفلسطيني عن وعد وزير خارجيتها "آرثر جيمس بلفور"، الوثيقة أطلقها مركز العودة ومقره لندن، حيث يطمح مطلقوها بالحصول على 100 ألف توقيع، وهو الرقم الذي يلزم البرلمان البريطاني مناقشة محتواها.

الدعوة للاعتذار التي تتنامى مع اقتراب الذكرى المئوية لرسالة وزير الخارجية البريطاني "بلفور" للورد اليهودي "روتشيلد"، أصبحت على جدول الديبلوماسية الفلسطينية، في مواجهة قرار الحكومة البريطانية الاحتفال بالذكرى المئوية لـ"وعد بلفور" ودعوة رئيس الحكومة الاسرائيلية لحضور الاحتفال، وهو ما انتقده السفير الفلسطيني في لندن "مانويل حساسيان" في كلمة ألقاها أمام البرلمان البريطاني، الرئيس الفلسطيني محمود عباس، من جهته، واصل مطالبة بريطانيا بالاعتذار للشعب الفلسطيني في أكثر من مناسبة وفي خطابين، على الأقل، في القمتين العربييتن الأخيرتين في نواكشوط والبحر الميت.

رغم أن البنية التحتية لتنظيم تحرك ضاغط عبر ائتلاف واسع تبدو مهيأة، إلا أن المطالبات التي ترتفع هنا وهناك، بما فيها تحرك السلطة الفلسطينية، لم تصل بعد الى مستوى "الحملة"، وتبدو محكومة بردات الفعل والغضب والمناشدات، ما يحول دون تطويرها إلى برنامج عمل متكامل. بينما السلطة الفلسطينية تبدو أكثر ميلاً للمساومة حين تطرح موضوع اعتراف بريطانيا بالدولة الفلسطينية في سياق "الاعتذار".

تفتقر معظم هذه التحركات، بشكل مأساوي ومؤلم، الى رؤية تتجاوز الغضب بأثر رجعي، أو البحث عن "جائزة ترضية"، هذا التشتت النابع من الارتجال هو ما يحول دون جعل "المطالبة بالاعتذار"، بحد ذاتها،جدولاً سياسياً قادراً على التأثير واعادة تحريك ذاكرة العالم حول الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وربطه بالاحتلال والاستيطان وشرعية اسرائيل من جهة، والنفاق السياسي الذي تتسم به السياسة البريطانية من جهة ثانية.

مثل هذا الجدول سيساهم، دون شك، في تعزيز حركات مدنية مناهضة للاحتلال في أوروبا والعالم، وفي مقدمتها حركة المقاطعة المتنامية التي تحولت الى كابوس حقيقي وحي للاحتلال الاسرائيلي.

حكومة المحافظين، من جهتها، غير معنية بالاعتذار، حتى أنها تعد لاحتفال بالمناسبة، بل إن "التايمز" البريطانية ألمحت الى أن العائلة المالكة قد تلبي، في سابقة من نوعها، دعوة الرئيس الإسرائيلي "رؤوبين ريفلين" للمشاركة في احتفالات اسرائيل بالمناسبة.

وللحقيقة فإن فكرة منح اليهود وطناً في فلسطين هي "امتياز" بريطاني صرف، ووعد متكرر سابق بعقود طويلة لتلك الرسالة، الفكرة ليست وليدة اتصالات بلفور بروتشيلد، وهي سابقة على مؤتمر بال/سويسرا وسعي الصهيوني "ثيودور هرتزل" في البحث عن مكان لليهود، ليس على التحديد فلسطين، إذ كانت هناك أفكار في أفريقيا وأمريكا الجنوبية وكندا.

فكرة "منح" فلسطين لليهود هي اقتراح بريطاني سابق على كل هذا، حيث شكلت ركناً أساسياً من استراتيجية السياسة الاستعمارية البريطانية في المنطقة العربية، ويمكن هنا العودة إلى مراسلات "اللورد بالمرستون" (1784-1865) وزير خارجية بريطانيا ورئيس وزرائها مع السفير البريطاني في القسطنطينية، أي قبل ما يقارب الثمانية عقود على رسالة بلفور، "بالمرستون" الذي وقف ضد مشروع محمد علي في مصر وبلاد الشام وسعى بقوة لدى الدولة العثمانية الى هجرة اليهود وتجميعهم في فلسطين:

"يقوم بين اليهود الآن المبعثرين في كل أوروبا شعور قوي بأن الوقت الذي ستعود فيه أمتهم إلى فلسطين آخذ في الاقتراب. ومن المعروف جيدًا أن يهود أوربا يمتلكون ثروات كبيرة، ومن الواضح أن أي قطر يختار أعدادًا كبيرة من اليهود أن يستوطنوه سيحصل على فوائد كبيرة من الثروات التي سيجلبها معهم هؤلاء اليهود. فإذا عاد الشعب اليهودي تحت حماية ومباركة السلطان فسيكون في هذا حائلاً بين محمد علي ومن يخلفه وبين تحقيق خطته الشريرة في المستقبل". يكتب بالمرستون في إحدى رسائله المؤرخة بتاريخ 11 أغسطس(آب) من عام 1840 إلى سفير بريطانيا في تركيا.

يبدو "بلفور" في هذا السياق مجرد موظف تافه ومطيع في سياق فلسفة استعمارية راسخة ومعادية لشعوب المنطقة وتطلعاتها، موظف من ذلك النوع الذي تصنعه الماكينة البريطانية وتدفعهم منذ عقود نحو المنطقة، وهو ما يمكن أن ينطبق على شخص معاصر مثل "توني بلير" على سبيل المثال، الذي يمكن تتبع خيط الكوارث التي ساهم في حدوثها للمنطقة، من احتلال العراق الى دوره كرئيس للجنة الرباعية ووظيفته كمستشار للعقيد القذافي، بلير الانتهازي الانجليزي النموذجي، الذي لا يكل ولا يمل، من عرض نفسه كخبير في شؤون المنطقة، الذي ظهر الأسبوع الماضي في مؤتمر ايباك في الولايات المتحدة اكبر مجموعات الضغط اليهودي في الولايات المتحدة ليقترح "البحث عن حل اقليمي للصراع الفلسطيني الاسرائيلي" !.