السبت 1 أبريل 2017 / 19:53

الطرق الصوفية والسياسة في مصر

يحفل تاريخ العلاقة بين المتصوفة والسلطة السياسية في مصر بالمواقف والمفارقات التي تظهر مدى حرص كل منهما على الآخر لتحصيل منفعة متبادلة هي بالنسبة للسلطان تتعلق بخلق الشرعية والحفاظ على الاستقرار وبالنسبة للمتصوفة ترتبط بمصالح مادية ومكانة اجتماعية وحظوة لدى الحكام.

 واستعراض تاريخ مصر منذ الفراعنة وحتى الوقت الراهن يشير إلى أن كل مرحلة أنتجت لنفسها الوسائل التي تجذب الجماهير من طقوس دينية وفلكلور شعبي .. الخ وذلك لدعم النظام السياسي القائم والتمكين لوحدة المجتمع واستقراره، والتقى الحكام مع أصحاب النفوذ الديني وغيرهم على هذه القاعدة وكان المتصوفة من أصحاب السبق في هذا المضمار خاصة بعد الفتح العربي لمصر.

لكننا لن نغوص بهذا المقال في قاع التاريخ البعيد، بل سنذهب مباشرة إلى ما جرى من توظيف للصوفية في خدمة السلطة بعد ثورة يوليو 1952، التي استخدمت الدين بوجه عام لتثبيت شرعيتها وتبرير سياستها. وفي الوقت الذي كان فيه الإخوان المسلمون في حال من العداء المستمر مع النظام الناصري مثلت الصوفية الأداة الطيعة في يد عبد الناصر لمواجهة الإخوان وتحسين صورة النظام. وفطن النظام لذلك فاتبع سياسة مرنة مع الطرق الصوفية واستقطبها إلى جانبه ، ومنع أي احتكاك عدائي من قبل المسئولين بمشايخ الطرق الصوفية، ورغم أن بعض المشايخ كانوا في حماية القصر قبل الثورة إلا أن ضباط الثورة لم يناصبوهم العداء بل فتحوا الطريق أمامهم للانضواء تحت كنفهم ، ولم يتعاملوا معهم كما تعاملوا مع كثيرين على أنهم رجال "العهد البائد".

من جانبها لم تأل الصوفية جهداً في مناصرة الثورة والوقوف إلى جانب سياستها بشكل منقطع النظير فها هي إحدى المطبوعات الرسمية الصادرة عن المشيخة العامة للطرق الصوفية تقول: "جاءت الثورة المباركة وجاءت معها روح الإيمان والتوثب وأشرق الوادي الكريم بنور الأمل وانبعث الشعب العريق للجهاد والعمل وأخذت يد الإصلاح تبني وتشيد وتبعث الطاقات المدخرة .. وما كان للتصوف الإسلامي أن يتخلف عن موكب الحياة وفجر النهضة".

وتقول أيضاً: "إن قول عبد الناصر إن مثلنا الأعلى في الكفاح هو الإيمان والصبر هي كلمات خالدة يجب أن نقف عندها طويلاً وأن نتدبرها ونتذوقها لأنها ترسم لنا حقيقة كبرى من حقائق الحياة وترشدنا إلى أسرار البطولة ومسببات النصر". ورأى المتصوفة في الاشتراكية نظاماً يمثل نوعاً من السمو بكرامة المواطنين جميعاً، ولذا دافعوا عنها ووصفوها بأنها اشتراكية مؤمنة لا ملحدة، فاضلة لا فاجرة، ورأوا في عبد الناصر "قائد البعث العربي، موجه التاريخ، محرر الشعب من إسار المواريث الرجعية ومن قيود الطبقية والاستغلال". وبلغت العلاقة بين الصوفية وعبد الناصر إلى درجة أن يقول شعراوي جمعة وزير الداخلية في عهد عبد الناصر: "حينما مات عبد الناصر كان علينا وسط مشاهد الحزن ومشاعره الفياضة أن نعمل على وضع ترتيبات خاصة لحماية الجثمان، بعد أن وصلتنا معلومات تفيد بأن الطرق الصوفية ستتكالب على النعش وتخطفه لتطوف به مساجد وأضرحة أولياء الله الصالحين في القاهرة".

وظهر ذلك في عدة مواقف سياسية مر بها النظام الناصري، فقد دعت الصوفية إلى الجهاد ضد الاستعمار الثلاثي عام 1956وعند الاحتفال بالنصر رأت أنه "يشكل عيداً للإنسانية والحرية العالمية والتحول التاريخي. وفي عام 1965 الذي شهد الصدام الكبير بين النظام الناصري والإخوان المسلمين، وقفت الطرق الصوفية إلى جانب النظام وأصدر الشيخ محمد محمود علوان شيخ المشايخ آنذاك بياناً أعلن فيه أن رسالة الصوفية هي الدعوة للأمن والسلام ومحاربة أساليب العنف والإرهاب، وقال إن الإسلام حرم التآمر في الخفاء والمفاجأة بالأثم والعدوان . وعقب هزيمة يونيو 1967 أعلنت الطرق الصوفية مساندتها التامة لعبد الناصر، وفي ديسمبر من العام نفسه سار أكبر موكب صوفي رسمي في مصر تأييداً للقيادة السياسية. وقد كان عبد الناصر على صلة بالمتصوفين وكان يستضيف الشيخ أحمد رضوان المتصوف الكبير ليشكو له همومه وأوجاعه. وهذا التأييد التام من قبل المتصوفة للنظام الناصري وحدب الأخير عليهم ورعايته لهم لم يقطعه سوى استثناءات قليلة مثل محاربة عبد الناصر للطريقة البكتاشية ومصادرة تكيتها بالمقطم عام 1957، نظراً لاشتباهه في ارتباطها بنظام ما قبل الثورة، ومصادرته لأملاك الطريقة الدمرداشية عام 1961، ووقوفه في وجه الطريقة الحصافية للاشتباه في ارتباط بعض مريديها بجماعة الإخوان المسلمين نظراً لأن مؤسسها الشيخ حسن البنا بدأ حياته الأولى في هذه الطريقة ببلدة المحمودية، والاتهام نفسه وجه إلى الطريقة النقشبندية التي ألقي القبض على شيخها نجم الدين الكردي عام 1965 وتم حل الطريقة، في إطار حرص النظام الحاكم على استمرار ابتعاد الصوفية عن السياسة قدر الممكن واستخدام القطاع العريض من أتباعها في تدعيم شرعيته.

وباركت الصوفية التوجه القومي للنظام وأضحت مجلة التصوف الإسلامي منبرا إعلاميا له في هذا الشأن، حيث راحت تشيد بالعلاقات المصرية العربية وتنتقد السعودية التي وقفت ضد سياسات عبد الناصر، وتبرر قرار الأخير بالتدخل المصري في اليمن، وظهر جلياً استخدام النظام للاتصالات القومية للصوفية في حال الطريقة الجنيدية الخلوتية وهي طريقة أسسها سوري في منتصف القرن التاسع عشر، وفي خريف عام 1958 أقام شيخ الطريقة حسين إبراهيم الجنيدي في سوريا وهو العام الذي أعلنت فيه الوحدة المصرية السورية وليس ذلك لكونه شيخاً صوفياً فقط بل لأنه كان عضواً سابقاً في مجلس الأمة في دورات 1957، 1958، 1968 ثم في مجس الشعب عام 1971م. كما حاول النظام الناصري استخدام الطريقة القطانية الشاذلية في توثيق العلاقة مع المغرب الذي يعتبر مهد هذه الطريقة، وساندت الدولة الطريقة البرهانية الدسوقية الشاذلية الممتدة داخل مصر والسودان من أجل توطيد العلاقات بين البلدين.

وفي عهد السادات استخدم الدين أيضا لتبرير سياسة الحكومة فقد تم تبرير السلام مع إسرائيل وإبرام معاهدة كامب ديفيد وتبرير سياسة الانفتاح الاقتصادي التي بدأت عام 1974م ومعاداة النظام الإيراني الإسلامي الذي جاء عقب ثورة 1979م، والوقوف ضد التدخل السوفيتي في أفغانستان1979، وغير ذلك من السياسات الداخلية والخارجية . وكانت الصوفية على رأس القوى الدينية التي استخدمها النظام في تبرير وتدعيم سياساته فحرص المسئولون على حضور موالد الصوفية واحتفالاتها وخاصة المولد النبوي ومولد الحسين والسيدة زينب والسيد البدوي، وحين صدر العدد الأول من مجلة "التصوف الإسلامي" في مايو 1979 كتبت تقول في حق الرئيس السادات: "يسر مجلة التصوف الإسلامي أن تتوج عددها الأول بهذا المقال للرئيس المؤمن محمد أنور السادات والذي يتحدث فيه عن رسالة التصوف حديث العالم ببواطنها، الغيور على تعاليمها، الحريص على تطهيرها والسمو بها إلى مكانها الأول في صدر الإسلام، وقد شاء الله أن يحقق كل ما كانت تصبو إليه نفسه الكبيرة نحو رسالة التصوف".

وحين وقعت أحداث سبتمبر 1981م الشهيرة، التي تم فيها اعتقال عدد هائل من السياسيين والمثقفين من كل التيارات والاتجاهات، كتبت المجلة تقول مدافعة عن النظام: " هذا الانحراف الذي جرف في تياره فريقاً من أبنائنا، ألم ننبه إلى ضرورة تبصرة الشباب بأمور دينه؟ ألم نحذر من خطر تسرب المبادئ الهدامة تحت شعار الدين إلى صفوف الجمعيات الدينية لتضليل الشباب؟ ألم نحذر من استغلال هؤلاء الأدعياء لجهل الشباب بالدين والتراث؟ .. إن الحل يتطلب تجنيد كل القوى المؤمنة بحق هذا الوطن في أن يعيش في سلام وأمن، وليس أقدر من كبير العائلة المؤمن ـ السادات ـ على أن يقوم بهذا العمل".

وفي فترة حكم الرئيس مبارك الطويلة، والتي بدأت عام 1981م، ظهر جلياً تقرب الحكومة من المتصوفة وسعى أرباب الطرق أيضاً إلى التقرب من السلطة. فبعد اغتيال السادات يوم 6/10/1981 أصبح لجماعات الإسلام الثوري صدى كبير في المجتمع المصري وكان على الحكومة أن تواجهه بالقدر نفسه. ورغم أن المواجهة الأمنية كانت هي الخيار الأول فإن النظام كان معنياً بدرجة كبيرة أن يقدم نفسه في صورة المدافع عن الإسلام في وجه المتطرفين. فالاستراتيجية التي تبنتها الحكومة لم تكن مقابلة أفكار الجماعات المتطرفة بأفكار علمانية ولكن كانت الخطة هي منافسة هذه الجماعات داخل ساحة الإسلام نفسها لتمييع الموقف، وسد الطريق أمام هذه الجماعات حتى لا تتمكن من تجنيد أكبر عدد ممكن من الأعضاء اعتماداً على إلهاب المشاعر الدينية لشعب معروف بتدينه منذ بداية التاريخ، ولذا نجد أن الخطاب الذي واجه به نظام مبارك هذه الجماعات كان خطاباً دينياً أيضاً يعتمد على طرح فقهي مغاير ويجعل الصراع بين الجماعات والحكومة ليس صراعاً بين الإسلام واللاإسلام، ولكنه صراع على تطبيق "الإسلام الصحيح" والذي يرى كل منهما أنه هو الذي يمثله.

وعلى هذا الأساس تهيأت الظروف الملائمة لاعتماد السلطة السياسية على بعض الطرق الصوفية في إنتاج خطاب مضاد لخطاب الجماعات الإسلامية المتطرفة، والتي يمارس بعضها الإرهاب، فالسلطة يلتحف بها باعتبارها طرحاً دينياً له مكانته لدى المصريين ليحسن صورته أمام الرأي العام بأنه يعرف حدود الدين، في وجه جماعات تحاول أن تنعت السلطة بالكفر أو الفسق على الاٌل، والصوفية تحتمي بالسلطة من جماعات الإسلام السياسية المتطرفة التي تهدد الصوفية بحرق وتدمير الأضرحة وتسعى إلى تقويض أركان التصوف من منبعه حين تطرح الفقه السني العملي في مواجهة طقوس وتقاليد الصوفية التي يرى شباب الجماعات أنها فسق إن لم تكن كفراً. وقد اتضح هذا أكثر بعد ثورة يناير، بل إن المثقفين وقوى المجتمع المدني والمجتمع العام تعاطفت مع المتصوفة في وجه المتطرفين الذين استهدفوهم بعد الثورة، وخاصة حين صعد الإخوان إلى الحكم.