الشاعر المصري عبدالرحمن الأبنودي.(أرشيف)
الشاعر المصري عبدالرحمن الأبنودي.(أرشيف)
الثلاثاء 4 أبريل 2017 / 20:01

دموعي في كف الأبنودي

بين الموقفين الدافئين في حياتي مع الأبنودي، سنواتٌ طوالٌ من عشقي لهذا الرجل وتدثّري بكلماته وكثيرٌ من دموع تغسل الروح كلما طاف بفكري

"أعملك ايه مانت بتكتب لي كلام يكسر صندوق القلب ويطلع وحده...."

هذا ما همستُ به للأبنودي وهو يربت على كتفي ليهدئ دمعي حين جرح قلبي، وأبكاني. كيف أبكاني وأين ومتى؟ لهذا قصّة.

قبل خمسة عشر عامًا، كان الأبنودي ضيفًا في إحدى الندوات، وكنتُ أجلس على مقعد مواجه له. ثم طلب إليه الحضور أن يُلقي قصيدة "يامْنَة"! ويااااه! ما أدراك ما تلك القصيدة وما تحمل من أوجاع ووخزات شوك ونصالٍ حادة رفيعة جارحة. "يامنة" هي عمّة الأبنودي، العجوز التي أقعدها المرض وهدّها الزمان. وانسابت دموعي حين وصل إلى المقطع الذي يحكي فيها ردّة فعلها حين جلب لها قطعة قماش لتخيطها جلبابًا جديدًا للعيد، ثم حين زارها في العيد التالي ولم يجدها:

"ولسه يامْنَة هاتعيش وهاتلبس/ لمّا جايب لي قطيفة وكستور؟/ كنت اديتهومني فلوس/ اشتري للركبة دهان/ آ..بّااا..ي ما مجلّعك قوي يا عبد الرحمان/ طب ده أنا ليّا ستّ سنين مزروعة في ظهر الباب/ لم طلّوا عليا أحبة ولا أغراب./ خليهم/ ينفعوا/ أعملهم أكفان.!/ كرمش وشي؟/ فاكر يامنة وفاكر الوش؟/إوعى تصدقها الدنيا../ غش ف غش! /مش كنت جميلة يا واد؟/ مش كنت وكنت/ وجَدَعَة تخاف مني الرجال؟/ لكن فين شفتوني؟!/ كنتوا عيال!/ هاتيجي العيد الجاي؟/ واذا جيت/ هاتجيني لجاي؟/ وهاتشرب مع يامنة الشاي؟/ هاجي يا عمة وجيت/ لا لقيت يامنة ولا البيت!"

وجعتني الكلمات، ووجعني إلقاء الأبنودي الذي لا يشبه إلا نفسَه. ولم أنتبه إلا ووجهي غارق في الدموع تتساقط دون مقدرة مني على كبحها. فما كان من الأستاذ إلا أن مدّ يد إلى علبة المناديل الورقية، وانتزع منديلاً يمسح دموعي قائلاً جملته الخالدة: “والله يا عبدُ الرُّحمن وبكّيت فاطنة الحلوة"، وهو حريص على نطق "فاطمة"، بالنون لا بالميم، كما ينطقها أهلُ بلدة "أبنود" الجنوبية التابعة لمحافظة "قنا" بصعيد مصر. وحين انتبهت لدموعي وخجلتُ، همهمتُ بالجملة التي افتتحتُ بها المقال: “أعملك ايه مانت بتكتب لي كلام يكسر صندوق القلب ويطلع وحده....” والعبارة اقتطفتُها من أحد جوابات "فاطمة أحمد عبد الغفار" لزوجها الأسطى "حراجي القط"، العامل بالسد العالي بأسوان، من إبداع عظيم الأغنية المصرية العامية عبد الرحمن الأبنودي، الذي تحلُّ هذا الشهر أبريل ذكرى رحيله عن ديارنا إلى حيث عالم الخلود الأبدي، حيث يصدح ويغنّي ولا ينسانا، نحن عشّاقَه ومحبيه.

موقفٌ جميل آخر حدث بيني وبين الأبنودي وأنا بعدُ طالبةٌ بالفرقة الأولى في كلية الهندسة. كانت اللجنةُ الثقافية بكلية الهندسة بجامعة عين شمس قد دعت الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي لإحياء أمسية شعرية استجابةً لمطالب الطلاب. ولبّى العظيمُ، وجاء. وهو يُلقي قصائده، كنّا من فرط الطرب والمتعة، نقاطعه بعد كل فقرة حتى يُعيد. وكان يبتسم بحنوّ الأب ويعيد. ورحنا نردد معه "جوابات حراجي القط" التي نحفظها عن ظهر قلب. ألفٌ من الطالبات والطلاب يقولون في صوت واحد: "وانشالله يا حراجي ما يوريني فيك يوم/ وانشالله تكون تعلمت تردّ قوام/ وما دام احنا راسيين ع العنوان/ والله ما حنبطل بعتان/ مفهوم.../ أسوان/ زوجي الغالي/ الأسطى حراجي القط / العامل في السد العالي". كانت تلك الأمسية في مدرج "فلسطين" المهيب الذي يحتلُّ مكانًا بارزًا في واجهة المبنى العريق: هندسة عين شمس. ثم طلب الأستاذ أن يستمع إلى مواهب الشعراء الجدد من طلاب الكلية. ودفعني دفعًا بعض الأصدقاء ممن يعرفون محاولاتي الشعرية، لألقي قصيدة على مسمع ومرأى من الأبنودي. وكان أحد أصعب المواقف في حياتي. وبعد بعض التردد ألقيتُ ما في جعبتي وأنا أتصبّب خجلاً. وحين تقدمت لمصافحته مُتعثّرةً في خطواتي وحيائي، فوجئت به يعانقني وهو يقول بلكنته المصرية الجنوبية البديعة: "انتي شاعرة يا بِت، أوعاااكي تسيبي الشعر!". وكانت شهادةً كبرى أمام حشود الحضور، من شاعر كبير لقلب صبية في بداية مشوارها الأدبي الخجول.

بين الموقفين الدافئين في حياتي مع الأبنودي، سنواتٌ طوالٌ من عشقي لهذا الرجل وتدثّري بكلماته وكثيرٌ من دموع تغسل الروح كلما طاف بفكري. وكما قالت زوجة حراجي: “ايه يعني لما الوحد يزرع وردة والناس متشوفهاش ولا تتنشقهاش؟! أنتو زرعتوا الودة واحنا نشممها للناس.” أيها الأجملُ الأبهى في حياتك، والأكثر جمالاً وحياةً في موتك، يا مخبي في عينيك السحراوي تملي حاجات، ارقدْ في سلام؛ ولا تنسنا!