الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. (أرشيف)
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. (أرشيف)
الأربعاء 5 أبريل 2017 / 19:45

درس نموذجيّ في الشعبويّة

التصويت لتركيّا ولكرامتها، في مواجهة الخصوم والأعداء، لا يعدو كونه تصويتاً... لي

في 1964 ألقى رئيس جمهوريّة العراق يومذاك عبد السلام عارف خطاباً صار شهيراً. ما جعله هكذا عبارة وردت فيه تقول: "لا جون ولا جنبون... بل حمد وحمود". عارف، الذي عُرف بتزمّته وضيق أفقه، كان يحاول القول إنّه لا يتأثّر برأي مسيحيّين، ولا يهمّه إلاّ آراء المسلمين. ما ضاعف ميله إلى هذه المناجاة العاطفيّة للأكثريّة الدينيّة أنّ نظامه كان يعاني الضعف على مستويات متعدّدة، داخليّاً وخارجيّاً، سياسيّاً واقتصاديّاً.

بعد أكثر من نصف قرن على خطاب عارف، الذي صار موضوعاً للتندّر والسخرية، ألقى الرئيس التركيّ رجب طيّب أردوغان خطاباً قال فيه بالحرف:
"لا أبالي بما يقوله هانز وجورج وهيلغا، ما يهمّني هو ما يقوله حسن وأحمد ومحمد وعائشة وفاطمة. أهتمّ لما يقوله الله". وبغضّ النظر عن طرق أردوغان الخاصّة في معرفة "ما يقوله الله"، تتميّز تلك الفقرة بسويّة بدائيّة ورخيصة من الشعبويّة: فالزعيم معنيّ فحسب بأكثريّة الأتراك، بدغدغة مشاعرهم وعواطفهم. وهو لا يقيم وزناً لسواهم.

لكنْ، وكما في كلّ نزعة شعبويّة، هناك دائماً ما يقيم "خلف الأكمة". ذاك أنّ الاستفتاء حول الصلاحيّات الرئاسيّة سيُجرى في 16 نيسان (إبريل) الجاري، والنجاح (غير المضمون) في هذا الاستفتاء هو بمثابة حياة وموت في حسابات الرئيس التركيّ وفي ما تبقّى له من مستقبل. وهذا ما يفسّر ذاك الميل إلى وضع الاستفتاء في مناخ من الحرب والتعبئة. فهو لا يخوض فحسب معركة تركيّا ضدّ حزب العمّال الكردستانيّ وأنصار الداعية الإسلاميّ فتح الله غولن. إنّه يخوض أيضاً معركة كرامة تركيّا ضدّ الأوروبيّين الذين هم لا أكثر من "أحفاد للنازيّين".

ومعروف، في أجواء كهذه، أنّ رمزيّة "الكرامة" تملك من طاقات التعبئة ما لا تملكه أيّة رمزيّة أخرى، بل أيّ خلاف واقعيّ وعقلانيّ آخر. وأردوغان، من أجل تغذية هذه الرمزيّة، يذهب بعيداً في استحضار المواضي الميّتة للعلاقات التركيّة – الأوروبيّة، فضلاً عن استنطاق الغرائز القابلة للإثارة من دون أيّ تفكّر هادىء أو تأمّل نقديّ.

لكنْ إذا كانت الشعبويّة بلهاء في مظهرها، فإنّها خبيثة في جوهرها. والرسالة هنا واضحة: إنّ التصويت لتركيّا ولكرامتها، في مواجهة الخصوم والأعداء، لا يعدو كونه تصويتاً... لي. فالزعيم الفرد الذي يسعى إلى المزيد فالمزيد من توسيع صلاحيّاته، هو من تتمثّل فيه، وفيه وحده، مصلحة البلد وكرامته وصورته. أمّا معارضوه... أمّا القضاء والإعلام والجامعات...، فلا يستحقّون الذكر إلاّ بوصفهم "طابوراً خامس" يدسّ الخلاف والفرقة في جسم الأمّة الواحد.

وهذا، مرّة أخرى، خطاب أردوغانيّ صالح أن يكون درساً نموذجيّاً في اللغة والمخاطبة الشعبويّتين.

تفصيل صغير لا بدّ من إضافته بما يستكمل صورة الشعبويّة وأخلاقها. ففيما كان الرئيس التركيّ يعلن ما يعلنه، كان زعيم المعارضة كمال كيليغدار أوغلو يخبر رؤساء تحرير صحف وشبكات إخباريّة في اسطنبول أنّ محاولة الانقلاب الفاشلة في تمّوز (يوليو) الماضي "كانت انقلاباً تحت سيطرة الحكومة". وقد جزم القياديّ المعارض بوجود ملفّ لديه "شبه كامل، بالأدلّة والبراهين، على أنّ ما حدث ليلة 15 تموز كان بعلم الحكومة التركيّة وتحكّمها، وسننشر هذا الملفّ قريباً بعد استكمال تحقيقاتنا الخاصّة".

إذاً، في انتظار أن نسمع شيئاً من كيليغدارأوغلو... شيئاً سيكون له، من دون شكّ، دويّ ضخم.